يعد الرئيس التركيّ، رجب طيب أردوغان، في هذه الأثناء، بتوسيع رقعة احتلال بلاده لأجزاء من سوريا، لتمتد بذلك على مناطق أخرى بعمق 30 كم، ويتوعّد بشنّ عملية عسكرية على غرار العمليات التي أقدمت عليها حكومته بدءاً من العام 2016، فيما لا يُعلم أيّ المناطق هي المقصودة بالتهديدات، وإن كانت الترجيحات تذهب صوب تل رفعت وبدرجة أقل كوباني، وأما ما يقرّب من احتمالات الحرب وتنفيذ مشاريع احتلال جديدة، فهو اعتبار أردوغان الحرب جزءاً من الاستعداد للانتخابات وامتداداً لها، وبذا أضحت الحرب والاحتلال والتهجير، مهما بلغت أكلافها، مجرّد دعاية انتخابية، مثلما أصبحت مسألة طرد اللاجئين السوريين مادّة للمغالبات السياسية وعنصر دعاية رخيصة.
والسعي لمغامرة عسكرية مرهون بأوضاع الحزب الحاكم وتراجع شعبيته، وبقدرته على الاستفادة من الظرف الخارجي الحالي، الذي يصبّ بعضه في مصلحة الاتجاهات الفاشيّة التركية، فمن ناحية تبدو الولايات المتحدة منهمكة في الحرب الروسية على أوكرانيا، فضلاً عن انخراط روسيا بكامل جسمها السياسي والعسكري في تلك الحرب، ومن ناحية ثانية هناك ملف انضمام السويد وفنلندا للناتو المنتظرتين الموافقة التركية على انضمامهما وهو ما قد يؤمّن مادّة للمساومة لتنفيذ الاحتلال في مقابل التراجع عن التلويح بالفيتو، ومن ناحية ثالثة، وهي الأهم، حاجة أردوغان إلى إشاعة حالة وحدة وطنية تخفّض من حدّة الاستقطاب والانقسام الداخليين، وبما يساهم في تعمية المواطن التركي عبر توريطه في مغامرات جديدة يجري تصويرها بأنها حرب حتميّة وعليها يتوقّف مصير الكيان التركيّ، ولعل مطاردة الكرد وتحطيم تطلّعاتهم، بمسمّى الحرب على حزب العمال الكردستانيّ، يؤمّن الغطاء المطلوب لأردوغان للتحايل على أسئلة الاقتصاد المتعثّر وسوء إدارة البلاد وتراجع الحريات وتردي حالة حقوق الإنسان.
وتزعم أنقرة أن الإدارة الذاتية تمثّل خطراً وتهديداً مستداماً على أمنها القوميّ، وبالتالي تصبح الحرب شكلاً من أشكال الحل الجذريّ والضروريّ والوحيد. لكأن شمال شرقي سوريا هي من ابتدأت الحرب على تركيا، وهذا يذكّر بالقصة التي روتها المفكّرة الألمانية الأميركية حنّة آرنت في كتابها بين الماضي والمستقبل، حيث أن رئيس الحكومة الفرنسية، جورج كليمنصو، دخل في حوار ودّي مع مندوب عن جمهورية فايمار (ألمانيا)، وكان سؤال المندوب حول كيف سيتناول المؤرّخون تحديد من أشعل الحرب العالمية الأولى، ليجيب كليمنصو “ذلك أمر لا يمكنني معرفته، لكنني أعلم بأنهم لن يقولوا إن بلجيكا هي التي غزت ألمانيا”، وهذا بالضبط هو ما سيقال في شأن شمال شرقي سوريا وتركيا، إذ لا يمكن لعاقل أن يقول إن الأولى اعتدت على الثانية فدفعتها لأن تردّ بكل هذه الوحشية والقسوة.
وفي مقابل التهديدات التركية لا يوجد في يد كرد سوريا ما يساعدهم على إبطال الحرب فهي قرار تركيّ بالمحصّلة، والبديهيّ هنا أن أنقرة لا تقبل أي عرضٍ سياسيّ يحول دون اندلاع حرب جديدة، ولا تضع حتى شروطاً للإقلاع عن فكرة الحرب، ذلك أن مجرّد عرض تركيا شروطها، يتعارض مع منطق الغطرسة والغرور التركيين، سوى أن من يملك تعطيل قرار الحرب هما في حقيقة الأمر، الولايات المتحدة بدرجة أساس، وتالياً روسيا التي تستطيع فعل ذلك في مناطق انتشار قوّاتها.
وبعد قليل من تصريح أردوغان، صرّح المتحدّث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس أن الولايات المتّحدة “قلقة للغاية” إزاء هذا الإعلان، وأضاف: “ندين أيّ تصعيد ونؤيّد الإبقاء على خطوط وقف إطلاق النار الراهنة”، وهو ما يعني أن لا فرص لنيل تركيا ضوءاً أخضر لتنفيذ عملية عسكرية جديدة في الوقت القريب، كما أن تصريح أردوغان جاء مفاجئاً لكنه يتسق مع سياسة تركيا الراهنة التي باتت متطلّبة ومساومة وانتهازية حتى إزاء أقرب حلفائها، وهذا الفهم الخاطئ لفكرة التحالفات قد يقود تركيا في المحصلة إلى تصادم محتمل مع الولايات المتحدة، خاصة وأن مشكلة انضمام السويد وفنلندا ما تزال متعثّرة، والتصعيد التركي مع اليونان لا يزال على أشدّه.
قد تكون لروسيا ردود أفعال صارمة إزاء أي تقدّم عسكريّ تركي قبل التوصّل إلى اتفاق معها، وتُوقّع موقف روسيّ صارم مبني على رفض روسيا استغلال تركيا انشغال قوّاتها في الحرب على أوكرانيا، فيما أبدت واشنطن موقفاً واضحاً، وإن هشّاً، حيث أن أي عملية عسكرية قد تشكّل خطراً على حياة الجنود الأميركان، وتحبط جهود محاربة “داعش”، وجدير بالتذكير أن واشنطن حذّرت أردوغان أواخر عام 2019 على لسان الرئيس الأسبق، دونالد ترامب، بأنها ستقوم بتدمير الاقتصاد التركي في حال خرجت أنقرة عن الاتفاق الذي عرف باتفاق بنس- أردوغان الذي أفضى إلى السماح لتركيا باحتلال رأس العين/سرى كانيه وتل أبيض، وقد يدفع تنفيذ تركيا عملية عسكرية بصيغة الأمر الواقع إلى تصعيد دبلوماسي بين واشنطن وأنقرة، فضلاً عن فرض حزمة عقوبات مؤذية على الاقتصاد التركي، وبطبيعة الحال تبقى المخاوف الأميركية من تفلّش الأوضاع الأمنية في شمال شرقي سوريا وعودة “داعش” قائمة.
وسواء نفّذ أردوغان وعيده وأشعل حرباً جديدة، أم تراجع عن تهديداته، فإن المنطقة ستبقى تعيش على شفير حرب مؤجّلة على الدوام، وهو ما سيبقي على سكان الشمال السوري، غير المحتل، أسرى للديستوبيا الأردوغانية، حيث التلويح بالحرب والاحتلال وما يستتبعها من حكم عالم العصابات المدعومة من تركيا المجرّب في المناطق “المحررة”، ذلك العالم الذي يعجّ بالعنف والقسوة والفوضى والهمجية.