أردوغان.. من العثمانية الجديدة إلى الميثاق الملي

تهديدات تركية بعملية عسكرية جديدة في شمال شرقي سوريا، خطط للتغيير الديمغرافي تحت عنوان إعادة اللاجئين السوريين، عمليات قصف واغتيال شبه يومية، باتت عناوين دائمة في السياسة التركية تجاه شمال شرقي سوريا وسط حرب إعلامية غير مسبوقة، فما الذي يقف وراء كل ذلك؟.           

مع فشل مشروع العثمانية الجديدة بعد سقوط حكم مرسي في مصر، واصطدامه بالتحولات التي شهدتها الأزمة السورية، وانهيار حركات الإسلام السياسي، وتحديداً جماعات الإخوان المسلمين في العالم العربي،  وتحويل أردوغان هذه الجماعات إلى ورقة مساومات لإصلاح العلاقات التركية مع دول الخليج العربي ومصر وإسرائيل، تبدو تركيا أمام العودة إلى الميثاق الملي، هذا الميثاق الذي يعني باختصار احتلال أراض في شمال كل من سوريا والعراق وإقليم كردستان العراق، على شكل قوس يمتد من إدلب في شمال غربي سوريا، إلى الموصل في شمال العراق، وصولاً إلى إقليم كردستان، مروراً بمدن ديرالزور والرقة وكركوك وصولاً إلى السليمانية، ولعل هذا ما يفسر التصريحات التركية الصريحة حول حقوق تركية تاريخية في الموصل العراقية وشمالي سوريا، مقروناً بعمليات عسكرية، ومشاريع تأخذ شكل الاحتلال الاستيطاتي بغية إحداث التغيير الديمغرافي المطلوب، وما الحديث التركي عن إسكان أكثر من مليون لاجئ سوري في الشريط الحدودي التركي مع سوريا إلا تعبير عن التطبيق العملي لهذا المشروع، فلسان حال أردوغان يقول إما أن تكون هذه المناطق تحت السيطرة التركية أو نقلب الحدود على أهلها، حتى لو تناقض ذلك مع الاتفاقيات الدولية التي رسمت الحدود بين الدول بعد الحرب العالمية الأولى، لاسيما اتفاقية لوزان التي قال أردوغان مراراً إنها ألحقت خسارة كبيرة بتركيا، واللافت أنه كلما اقتربنا من عام 2023، أي الذكرى المئوية الأولى لاتفاقية لوزان، زاد أردوغان من حديثه عن إقامة تركيا جديدة في إشارة إلى رفضه للحدود التي رسمتها اتفاقية لوزان، وكي يبرر مشروعية طلبه، يسوق مجموعة من الأساطير عن لوزان، منها أن مدة الاتفاقية هي مئة عام فقط، وأن الاتفاقية منعت بلاده من حق التنقيب عن الطاقة، مع أن كل ما سبق لا يمت للحقيقة بصلة، وهي مجرد مزاعم ساقها أردوغان لتحقيق أجندته السياسية التي باتت تتجسد في حدود الميثاق الملي بعد فشل العثمانية الجديدة.                                                   

يعتقد أردوغان أن ثمة لحظة تاريخية لها علاقة بالتطورات الجارية في العالم قد تساعده على تحقيق مشروع الميثاق الملي، فسوريا والعراق ومعهما الدول العربية تشهد حالة من الانسداد والشلل والفشل والسيولة مع تفاوت المشهد من دولة إلى أخرى، كما أن انشغال العالم بأزمة الحرب الروسية – الأوكرانية، وابتزاز أردوغان لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في قضية انضمام كل من فنلندا والسويد إلى عضوية الحلف، فضلاً عن حالة التجاذب الداخلي التركي مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقررة في صيف العام المقبل، وهي انتخابات مصيرية لأردوغان وحزبه الحاكم، كلها ظروف تتكامل مع بعضها، يرى أردوغان فيها فرصة ذهبية لدفع مشروعه إلى حيز الواقع في شمال سوريا وشرقها، وعليه صعد من وتيرة اعتداءاته ضد شمال شرقي سوريا بحجة محاربة الإرهاب، كما كثف من وتيرة عملياته العسكرية في إقليم كردستان العراق وفي المناطق الكردستانية داخل تركيا بزعم القضاء على حزب العمال الكردستاني، وعلى الأرض كثف من مشاريعه الاستيطانية في شمال سوريا وشرقها، وسط خطط لإطلاق أكبر عملية استيطان في التاريخ تشمل معظم المناطق الحدودية السورية، ومحاولة تغيير الواقع الاجتماعي والهوياتي في هذه المناطق، عبر عمليات يتداخل فيها النشاط الأمني والتجاري والثقافي واللغوي والسكاني والخدمي… كل ذلك تحت شعارات إنسانية وأخلاقية بغية الحصول على التمويل الخارجي، وكسب الشرعية لهذه الأعمال التي ترتقي إلى مستوى ارتكاب جرائم الإبادة ضد الهويات التاريخية والشعوب الأصلية في هذه المناطق، وسط مساومات مع دول كبرى تحرص على مصالحها أولاً وأخيراً.                                    

في الواقع، ينبغي القول إنه يسجل لأردوغان أنه عرف كيف يستغل التناقضات الدولية ولاسيما الروسية – الأميركية لتحويلها إلى مكاسب عسكرية في سوريا على أمل تحويلها إلى مكاسب سياسية في المستقبل، كما يسجل له أنه عرف كيف يجعل من المعارضة السورية مجرد فصائل وجماعات مسلحة تعيش على الفوضى والإرهاب والارتزاق.. كل ذلك تحت اسم الثورة التي هي براء منهم، وفي كل ذلك وجد أردوغان أن عدوه الثابت والدائم هم الكرد، وأنه مستعد للتحالف مع الشيطان لعدم تمكين هؤلاء الكرد من التعبير عن هويتهم وتحقيق كينونتهم السياسية على الجغرافية التاريخية التي يعيشون عليها منذ الأزل، لكن الذي ينبغي قوله هنا، هو أنه مهما استفاد أردوغان من الظروف والأزمات الدولية، فإن تركيا ليست دولة عظمى كي تقلب الخرائط والحدود على أهلها، بل إن نظامه يمر بظروف هي الأصعب منذ وصول حزبه إلى السلطة، حيث تهدد الأزمات المالية والاقتصادية والمعيشية مجمل أركان حكمه، وعليه تبدو مقاومة مشاريع الاستيطان والتغيير الديمغرافي وعلى كل المستويات والأصعدة، هي السبيل الأمثل لإفشال مشروع الميثاق الملي مثلما فشل مشروع العثمانية الجديدة. في الواقع، رغم أن تهديدات أردوغان الأخيرة بعملية عسكرية جديدة في شمال شرقي سوريا، حملت طابع الابتزاز والضغط على الدول الكبرى للتجاوب مع شروطه من أجل تحقيق إنجازات في الداخل التركي تحسن من شعبيته، إلا أنها في الوقت نفسه تحمل مخاطر جدية، وهي مخاطر تتطلب من التحالف الدولي قبل غيره، اتخاذ إجراءات رادعة وجدية لمنعه من الإقدام على عدوان جديد، إذ من شأن ذلك فتح الأبواب لعودة “داعش” من جديد وتوجيه ضربة قاصمة لجهود التحالف في هذا المجال، فضلاً عن تشريع الطريق أمامه لاحتلالات جديدة في ظل طموحاته الجامحة.