في التطرف وأسبابه في سوريا

منذر خدام

التطرف بصورة عامة سواء بمرجعية دينية أو غير دينية له جذوره في الأيديولوجيات والعقائد المغلقة، منها يستمد نسغ الحياة، لكونها تدعي احتكار الحقيقة، وما عداها فهو انحراف وشذوذ تنبغي محاربته والقضاء عليه. التطرف لا يقبل بالحوار لأن الحوار يعني إمكانية التنازل والقبول بحلول وسط، وهذا يخالف مبدأ امتلاك الحقيقة التي يقوم عليها التطرف ذاته، لذلك فهو لا يترك سوى خيارين أمام المختلف معه هما: إما القبول به، أو التصفية، خصوصاً عندما ينتقل التطرف من ميدان العقائد والأيديولوجيا إلى ميدان السياسة.

غير أن التطرف، في ظروف الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية، لكي ينتقل من حقل العقائد والإيديولوجيا، حيث يتم تبريره وتحفيزه، إلى حقل السياسة التي تحوله إلى ممارسة ينبغي توافر جملة من الشروط منها: وجود قراءات متعارضة للمصالح بين القوى المتطرفة فيما بينها، ومع بقية القوى التي يمكن تسميتها بقوى الاعتدال. ثانيا: لا بد من وجود مظلومية يمكن الاستثمار السياسي فيها. وثالثا: توافر قوى خارجية لها مصلحة في التطرف وجاهزة للاستثمار فيه.

ظاهرة التطرف بالمعنى الذي أشرت إليه موجودة عبر التاريخ، لكنها ازدهرت كثيراً خلال حقبة المد الشيوعي وأخذت أشكالاً مختلفة منها حروب الأنصار الشيوعية، ليعود فيجد الخصم فيها ضالته في المقاومة على الصعيد العالمي (الانقلابات العسكرية) أو حروب “الأنصار” الدينية. وربما تكون مقاومة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان قد شكلت انعطافة حادة في بروز التطرف لدى بعض حركات الإسلام السياسي مستفيدة من بعض القراءات الخاصة للنصوص الدينية.

ظاهرة التطرف في سوريا يتحمل مسؤوليتها بصورة أساسية النظام السوري، لأنه المسؤول عن خلق كل الظروف الملائمة لتغذية هذه الظاهرة ورعايتها. بداية هو بحد ذاته شكل ظاهرة متطرفة عندما منع أي حراك سياسي في المجتمع منذ نحو ستة عقود، وبنى سلطة أمنية جهازية شديدة المحافظة، وأخلى لها العنان لتمارس العنف والفساد خارج نطاق أي مساءلة قانونية. وبالفعل من لم يرضخ لخيار الانضواء تحت جناحيه، زج به في السجن أو دفع إلى مغادرة البلاد، عداك عن تصفية الكثيرين بأشكال مختلفة، ولم يميز في ذلك بين رفاق الدرب أو الخصوم السياسيين التاريخيين. إضافة إلى ذلك فقد ساهم خلال الغزو الأميركي للعراق بإرسال عشرات الآلاف من السوريين للقتال في العراق، عاد كثيرون منهم يحمل معه سلاحه وخبرات قتالية عالية وجهوزية تامة لتطبيق هذه الخبرات في الظروف المناسبة. ومع بدء انتفاضة الشعب السوري في شهر آذار من عام 2011 في سبيل الحرية والكرامة والديمقراطية، واختيار النظام النهج الأمني العسكري للرد عليها، يكون النظام قد أمن كل الظروف المناسبة لكي يحمل هؤلاء وغيرهم السلاح تحت رايات الجيش الحر في البداية ومن ثم تحت راياتهم الخاصة بعد أن قويت شوكتهم وتمكنوا. لم يكن ينقص هؤلاء المقاتلين الشحن الأيديولوجي العالي الذي انعكس على الأرض قوة معنوية قتالية حقيقية لم تستطع قوات النظام وأجهزته في كثير من الحالات الصمود أمامها. وكان لديهم فائض من الشعور بالمظلومية المركبة التي غزتها روافد كثيرة منها الإقصاء السياسي، وتنامي ظاهرة الفقر خصوصاً في الريف، إضافة إلى وجود طلب خارجي كبير للاستثمار السياسي في التطرف.

إن مقولة “التطرف من جهة يولد تطرفاً مقابلاً”  لها مصداقيتها في سوريا، بل وأكثر من ذلك عمل الطرف المتطرف الأول (السلطة) على تغذية التطرف من الجهة المقابلة ليس فقط من خلال خلق الظروف المناسبة لكي ينمو وينتشر، بل وبصورة مباشرة من خلال إخلاء سبيل الكثير من العناصر المتطرفة من سجونه. لقد كانت السلطة بحاجة ماسة لطرف في معادلة الصراع المحلية يكون من طينتها لكي تبرر لنفسها قمع الحراك الشعبي السلمي الذي انطلق في شهر آذار من عام 2011. وقد تحقق لها ذلك من خلال تزايد أعداد المقاتلين في إطار جبهة النصرة وداعش وشقيقاتهما وخصوصاً بعد إعلانهما عن قيام الإمارة الإسلامية في حلب وريفها، والدولة الإسلامية في العراق والشام، مما حقق للنظام فوائد سياسية كثيرة. بداية صار لديه قضية ملموسة يستطيع من خلالها تبرير حربه المجنونة على شعبه تجاه أجهزته ومناصريه وتجاه الخارج.

لقد أخذ الصراع المسلح بين طرفي الاستبداد، أي بين قوى النظام وقوى الإسلام السياسي الإرهابية على السلطة منذ عام 2012 يحدد شكل المشهد السوري، مما ولد تساؤلات كثيرة لدى جمهور الثورة عن مصير الدولة المدنية الديمقراطية التي ناضلوا من أجلها وضحوا في سبيلها. لقد تم القضاء على حلم السوريين بالتغيير وأعيد إنتاج الاستبداد للأسف بثمن باهظ دفعه الشعب السوري من دمائه ومن لقمة عيشه ومن عمرانه. والأخطر من كل ذلك ثمة بوادر على تقسيم البلد إلى كيانات متصارعة نتيجة غياب أي أفق لحل سياسي يعيد توحيد البلد والشعب في ظل نظام سياسي ديمقراطي لا مركزي يؤمن الظروف المناسبة لأوسع مشاركة شعبية في إدارة الدولة.