أزمات الحكومة السورية تخلق حالات متعددة من الاضطرابات النفسية لدى فئة الشباب
دمشق ـ نورث برس
بقيت ريم الخضرة (33 عاماً) وهو اسم مستعار لصحفية من دمشق، عاماً كاملاً تقاوم فكرة الذهاب إلى معالجة نفسية، وعانت من عزلة واكتئاب دائم، شعرت بالفشل رغم عملها وإنجازها.
تقول ريم، لنورث برس: “شعرت بالعار من نفسي، لم يكن للنوم طريق إلى عيني، وشعرت أن كل ما أعمله في الصحافة هو سدى، وأنا في تفكير دائم كيف أُأمن مستقبلي كي لا أحتاج أحداً”.
ريم التي وصفت معالجة نفسية حالتها “بالقلق المتوسط”، بحسب ما قالت، تتماثل اليوم إلى نهاية الجلسات العلاجية. وتعقب: “كيف لا نمرض نفسياً ونحن من نعمل 12 ساعة لنعيش كفاف اليوم فقط في مناطق سيطرة الحكومة السورية؟”.
وتصرُّ ريم على متابعة المعالجة النفسية “حتى لو قالت لي الطبيبة إن صحتي النفسية جيداً، كوني أحتاج لمكان أفضفض فيه دون خوف”.
ولا يمر يوم في شوارع العاصمة السورية، إلا وترى شخصاً يتحدث مع نفسه، أحياناً يتمتم، وأحيانا أخرى بصوت مرتفع، هذا ليس حال بعض الكبار في السن بل كثيرةٌ هي المشاهد لشبان وشابات يتحدثون مع أنفسهم في الشوارع أيضاً.
وفي مشهد آخر يلحظ الذي يحتك مع الشبان والشابات يومياً، ثلاث حالات، أولها حالة لا مبالاة على أي شيء ناجمة عن انسداد الأفق، والأخرى حالة من العصبية والردود العنيفة، أما الثالثة فهي حالة الكوميدية التي يتعاملون بها مع الواقع.
أرقام ونسب
وأظهرت دراسة قدمها موقع “الباحثون السوريون”، أجريت على 492 طالب وطالبة تتراوح أعمارهم بين 8 سنوات و 15 سنة، أن قرابة 60.5% من العينة المدروسة وجود اضطراب نفسي محتمل.
ومتلازمة الصدمة ما بعد المرض، هي الاضطراب الأكثر شيوعاً بنسبة 35.1% يتلوها الاكتئاب بنسبة 32% والقلق بنسبة 29.5%.
وتشير ندى محمد (37 عاماً) وهو اسم مستعار لمختصة في علم النفس، في حديث لنورث برس، إلى أن “الاضطرابات النفسية موجودة عند كل إنسان، ولكن يجب التفرقة بين الاضطرابات النفسية والأمراض وبين الاضطرابات العابرة والاضطرابات طويلة الأمد”.
وبالنسبة لسوريا، فإن الاضطرابات النفسية، “هي من مفرزات الأزمة وتتعلق بالمستقبل الاقتصادي، وبحالة الرغبة بالبعد والسفر الحاصلة، وخصوصاً عند الشباب، وتحول البلاد إلى سجن كون لا مستقبل فيها بالنسبة لغالبيتهم”، بحسب ندى.
وتقول الأخصائية إن نسبة الشبان والشابات المقبلين على العلاج النفسي ارتفعت، وتقدرها “بنسبة 30%”، كما أن تفكير بعضهم تغير فلم يعد بمعتقدهم أن كل مريض نفسي هو “مجنون” مثلما يصفه المجتمع.
ويعاني أحمد محمد، وهو اسم مستعار لطالب دكتوراه في كلية التاريخ، من حالة عزلة ورفض للجلوس مع الأهل، حيث يشعر بغربة كبير.
أحمد الذي يعمل بالإضافة إلى دراسته كـ”نادل” في أحد مطاعم العاصمة يقول لنورث برس: “كل يوم كنت أتساءل، هل من يدخل إلى هذا المطعم في منطقة أبو رمانة ويدفع فواتير بآلاف الليرات ثمن طعام وشراب يومياً عاش معنا كل تفاصيل الحرب؟”.
ويضيف متسائلاً أيضاً: “هل شعر أحد أبنائه يوماً، مثل ما يشعر إخوتي أنهم بحاجة إلى لعبة أو بنطال جديد؟، ماذا تنفع الشهادة العليا التي أسعى إليها؟”.
وكان هذا المونولج يدور في نفس أحمد يومياً، “حتى قررت أني سأسافر حتى لو إلى الصومال، كي أنقذ أهلي وإخوتي من الجوع”.
بدأ طالب الدكتوراه بزيارة طبيب نفسي بعد أن حوله إليه أحد المعالجين، كون حالته حسب توصيف الطبيب “هي حالة اكتئاب متقدمة نوعاً ما”.
وقطع، أحمد، اليوم 3 أشهر من العلاج النفسي الذي يترافق مع أدوية مهدئة دخلت إلى جسمه ببطء، وسوف يخرجها الطبيب ببطء أيضاً.
فضفضة أو دواء؟
تحاول هيا نورس (35 عاماً) وهو اسم مستعار لطبيبة غدد، أن تستقبل مرضاها كل يوم بابتسامة، تكتب الوصفات، وتحاول أن تتذكر ما هو متوافر من الأدوية في الأسواق وتقدر جيوب المراجعين على دفعه.
تقول هيا لنورث برس: “ربما يكون الطبيب أسهل من يعترف ويقدر قيمة المرض النفسي. شعرت أني أعيش حالة انفصام، كل يوم أرتدي قناعاً لأقابل به المرضى، وفي المساء أخلعه لأبكي على سريري لساعات طويلة”.
وطرقت الطبيبة باب طبيب نفسي لا تعرفه، “فوجهني إلى معالج نفسي كون حالتي لا تستدعي أدوية، أصبحت اليوم في نهاية مرحلة العلاج، كنت أشعر باللاجدوى من أي شيء في البلاد، حتى اللاجدوى من المرض”.
ووصف الأطباء حالة هيا، بـ”اكتئاب بدرجات خفيفة”، والتزمت بتعليمات المعالج النفسي “الذي منعني من لقاء المرضى لأيام، وغيرت نمط حياتي”.
وبين العلاج النفسي الصرف الأقرب إلى الفضفضة والتكنيكات العلاجية، واللجوء إلى الدواء “شعرة صغيرة”، يقرها المعالج والطبيب.
ويشير يوسف أحمد (35 عاماً) وهو اسم مستعار خريج كلية الطب، إلى أنه “ازدادت نسبة الاضطرابات النفسية في السنتين الأخيريتين بما يقارب 100% رغم عدم وجود إحصائيات رسمية”.
وتصدر تلك الحالات الاكتئاب والقلق عند الشبان والشابات بنسبة تتجاوز الـ70 بالمئة، رغم اختلاف الدرجات وحدية الأمراض، بحسب الطبيب.
بينما كانت حالات الفصام “حاضرة بشدة” وهذا طبيعي، حسب وصف “أحمد”، رغم كل ما يعانيه المجتمع السوري.
ويشير إلى أن هذه النسب استطاع قرأتها وتحليلها من عدد الزوار في عيادته وعيادات زملائه.
ويتفق “أحمد” مع الاختصاصية النفسية في أن المستقبل النفسي الذي ينتظر هؤلاء الأشخاص “لا يمكن التنبؤ به 100% لكن يمكن القول إن البلاد أمام جيل متأزم نفسياً يعيش خوفاً وهلعاً ولا مبالاة”.
ويستشهد على ذلك بأمثلة جرت على فترات سابقة من العامين الماضيين، “فكم شاب وشابة اليوم ضاقت بهم الحياة وقضوا انتحاراً؟ وكم أب وأم رموا أولادهم في الشوارع؟ وكم شاب وشابة أصابتهم التجلطات وخانتهم خثرات الدم بعد معاناة وتفكير عميق إلى أين يتجه المستقبل؟”.