منذر خدام
في مقالة سابقة (التحليل السياسي بلغة طائفية) قلنا إن استخدام اللغة الطائفية في تحليل الأزمة السوري حال دون إنتاج فهم صحيح لها، وأعاق بالتالي رسم السياسات المناسبة في ضوئه، مما ألحق ضرراً كبيراً بقضية انتفاضة السوريين ضد الاستبداد. لم يكتفِ كثير من المعارضين، خصوصا من النخب السياسية، في استخدام المفردات الطائفية في التحليل، بل أخذوا يبنون مواقفهم من قوى معارضة أخرى على وجود كلمات أو عبارات بعينها في خطابها السياسي.
في هذه المقالة بودي نقد نماذج من الآراء المعارضة في فهمها للأزمة السورية، والتي تبين لا حقاً أنها مجرد هواجس أو رغبات. بداية لا بد من الإقرار بأن الواقع السوري معقد جداً، ويخضع للتغير المستمر، بتأثير قوى وعوامل عديدة، لذلك كان من اللازم تغيير المواقف السياسية منه، وطريقة التعبير عنها، بدءاً من التفريق بين ما هو ثانوي وعارض، وما هو جوهري وضروري فيه، واستخدام اللغة السياسية المناسبة.
الجوهري والضروري في الواقع السوري هو الانتقال من واقع الاستبداد إلى فضاء الحرية والديمقراطية، فليس بين الاستبداد والديمقراطية من حل وسط، فإما استمرار الاستبداد، وإما الانتقال إلى الديمقراطية. ولقد عبرت المعارضة السورية بكل أطيافها عن هذا الجوهري والضروري قبل عام 2011 بتبني نهج التغيير “السلمي المتدرج الآمن” عبر تبني سياسات إصلاحية، وكان موقفها في ذلك الوقت صائباً، خصوصاً في ضوء ما طرحه العهد الجديد في سنواته الأولى من سياسات ومواقف تعبر عن الرغبة في الإصلاح، لتكتشف لا حقاً أن طبيعة النظام أكثر جموداً ولا تقبل الإصلاح وفق رؤاها وتصوراتها، بل وفق ما يراه النظام وما تقتضيه مصالحه في بقاء السلطة.
وما إن تمرد قسم مهم من الشعب السوري على النظام، بتحفيز شديد من انتفاضات بعض الشعوب العربية، حتى سارع النظام إلى اتخاذ العديد من الإجراءات الإصلاحية، التي لا تهدده في العمق كنظام استبدادي، من قبيل إعداد دستور جديد، وقانون للأحزاب، وقانون للانتخابات وغيرها. بدوره الشارع المنتفض أخذ يغير من مطالبه وشعاراته، فخلال الأشهر الثلاثة الأولى ركز على شعارات الإصلاح، لينتقل خلال الشهريين التاليين إلى شعار تغيير النظام، ومن ثم إلى شعار إسقاط النظام، ومحاكمة الرئيس، بل وإعدامه. في البداية كما في النهاية لم يكن أحد من المعارضين يرضى ببقاء النظام الاستبدادي، وإنما كانت ثمة اجتهادات مختلفة لكيفية الانتقال منه إلى النظام الديمقراطي، وهذه الإشكالية لا تزال قائمة تثير الخلاف والاختلاف بين قوى المعارضة.
اللافت في الأزمة السورية ظهور “فوبيا” الشارع، إذ صارت المعارضة بمختلف فئاتها أثيرة لهذه الفوبيا، تعاير خطابها السياسي بدلالته. “الشارع” يريد،” الشارع” يطالب، ولا قول غير ما يقوله الشارع. وإذا كان من حق الشارع، بل من واجبه كحقل تعبوي أن يرفع الشعار الذي يريده، فمن واجب العقل السياسي والثقافي المعارض أن يملأ هذه الشعارات بالمضمون الملائم، ومكانه ليس في الشارع، بل حيث الهدوء والعصف الفكري. للأسف الشديد لم يستطع أغلب المعارضة السورية أن يقدم خطاباً سياسياً في ضوء تحليل الواقع السوري واكتشاف ممكنات التغيير فيه، بل صارت رهينة لفوبيا الشارع.
لقد تخلى المفكر والسياسي والمثقف عن دوره في إنتاج الرؤى السياسية وإعداد البرامج وصوغ الشعارات المناسبة لصالح دور الشارع، وأي مفردة أو كلمة ترد في خطاب الشارع تصير مباشرة معياراً لأي خطاب. فتحت تأثير هذه الفوبيا تعمق انقسام المعارضة إلى معارضات، وصار من يقول من المعارضين أو المثقفين بأن ما يجري في سوريا لا يرقى إلى مستوى الثورة يعد خائنا، من قبل الشارع والمعارضة التي تؤمن له الغطاء السياسي. وقس على ذلك من يقول ب”تغير” النظام وليس “إسقاطه”، أو من يشكك بتمثيل بعض القوى المعارضة للشعب السوري، أو نقد العمل المسلح الذي أخذت تمارسه بعض القوى المعارضة، أو نقد المطالب المتكررة للخارج بالتدخل العسكري في سوريا لإسقاط النظام. للأسف كان بعض مثقفي المعارضة يجد في نقد الدعوة للتدخل الخارجي خدمة للنظام، بل وجد بعضهم أيضا في لاءات هيئة التنسيق المعروفة: لا للتدخل العسكري الخارجي، ولا للتجييش الطائفي والصراع الطائفي، ولا للعنف، خدمة كبيرة للنظام.
بالطبع تغير الواقع السوري كثيراً بعد نحو أحد عشر سنة من بدء الأزمة السورية، وتحول حلم السوريين بالتغيير الوطني الديمقراطي إلى كارثة، مع ذلك لا تزال مواقف كثيرين من قوى المعارضة أسيرة ما كان يطرحه الشارع في بداية الحراك، بل انساق بعضها مع قوى الإسلام السياسي وخصوصاً المتطرف والإرهابي منه. ليس هناك أسوأ من أن تبنى السياسة على الهواجس، وأن تتحدد المواقف السياسية استناداً إلى الرغبات، في تغييب مقصود أو غير مقصود لتحليل الواقع، وما ينطوي عليه من ممكنات للتغيير، أو للثورة ، أو حتى للإصلاح. ومما يزيد من كثافة شبورة الرؤية غياب المفاهيم الضرورية للقبض على الواقع معرفياً.
اليوم ومع انقسام سوريا إلى مناطق نفوذ، واستحالة الحل العسكري، فإن العودة إلى مقولة المعارضة قبل عام 2011 في التغيير “السلمي الآمن والمتدرج” تكتسب مصداقية أكثر، لكن هذه المرة بالاقتراب من فهم المعارضة الوطنية الديمقراطية لها، أي بالتركيز على وجود فضاء سياسي يسمح لأوسع مشاركة شعبية في إدارة الدولة والحكم.