الأسد في طهران.. ليست مجرّد زيارة

في الزيارة الثانية للرئيس السوري بشار الأسد منذ عام 2011 لإيران، والتي التقى فيها  بالمرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي، يمكن قراءة الأسباب التي تقف خلف هذه الزيارة وإن بتحفّظ شديد؛ ذلك أنه لم يرشح الكثير عن الزيارة، فضلاً عن أنّها لم تلق الكثير من الاهتمام من قبل المحللين والمعلّقين، على اعتبار أن علاقة النظامين باتت أقرب إلى العلاقة الثابتة التي  لا تخضع لمراحل صعود وهبوط غير متوقّعَين. كما أن الزيارة بدت متوقَّعة لنظام باتت جولاته الخارجية تدور في حيّز ضيّق ومحدّد.

وقريباً من الجانب الراسخ والتقليدي في علاقة النظام السوري بالجمهورية الإسلامية، يمكن الحديث عن علاقة تنامت بشكل مضطرد، على وقع اهتزاز النظام أمام حركة الاحتجاجات، واعتماد النظام  تالياً على المليشيات الإيرانية والحرس الثوري وحزب الله في إطار الحرب الأهلية السورية، ثم في مرحلة لاحقة باتت إيران هي المكافئ الموضوعي للتوازن الإقليمي في مواجهة الدور التركي، وأبعد من ذلك، حال الوجود الإيراني دون أن تصبح روسيا هي الآمر الناهي فيما خص مصير سوريا والنظام، وبالتالي كانت إيران على الدوام جزءاً من لعبة توازن سعى إليها نظام دمشق، فيما مثّلت سوريا العمق الاستراتيجي الأهم لطهران بوصفها جزءاً من مصفوفة “المقاومة” والسيطرة والتحكم بالمنطقة.

وإذا كان الرأي السائد يَتَّجِه إلى احتمال تراجع دور إيران في سوريا، مرة تحت تأثير الحضور الروسي المهيب دولياً وإقليماً، ومرة نتيجة لاحتمالات حدوث انفراجه على المستوى العربي تكون على حساب النفوذ الإيراني، بيد أن كلا الترجيحان لم يكونا على قدر كبير من الرجاحة بالنظر إلى الوشائج الأمنيّة والاقتصادية والاستراتيجية التي تربط طهران بدمشق.

ففي زيارته الأخيرة، صرّح الأسد، بأن  “أمريكا اليوم أضعف من أي وقتٍ مضى” وأن “العلاقات القوية بين إيران وسوريا عملت على كبح نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط”، ما يعكس جوهر الخطاب القادم، وهو التصعيد، الذي كان قد غاب عن المشهد نتيجة لمسألتين: انخراط إيران بالمفاوضات النووية، ووقوع سوريا في مرمى المراقبة الأميركية قبل أن ينتقل ثقل الاهتمام الأميركي إلى أوكرانيا.

ومع وصول الاتفاق النووي الإيراني إلى طريق مسدود بسبب إصرار طهران على رفع واشنطن الحرس الثوري الإيراني من القائمة الأميركية للمنظّمات الإرهابية الأجنبيّة، فإن التلويح الإيراني إلى إمكانية بلوغ الحرس الثوري مداه الأقصى عبر انخراطه في جهود التضييق على الأمريكان في سوريا يصبح قريباً للتصوّر، وهو على ما يشكّله من مغامرة إيرانية فإنّه قد يتسبّب بصداع لواشنطن التي لا ترغب في صرف اهتمامها الأساسي المتمثّل بتطويق روسيا في أوكرانيا، إلى معارك قد تصنّف بأنّها “جانبيّة” وتستنزف التركيز المطلوب.

ووفق ما هو متوقّع، وفي حال استمرار تعثّر المفاوضات النووية، قد تصبح مناطق التواجد الأميركي ومناطق سيطرة حلفائها في قوات سوريا الديمقراطية “قسد” جبهات ملتهبة، لا سيما مناطق سيطرة النظام في دير الزور والبوكمال والتي تشهد حضوراً إيرانياً كثيفاً، وتشهد بين الفينة والأخرى قصفاً جوّياً أميركياً وإسرائيلياً، وقد كانت واشنطن عزّزت في وقت لاحق من قواعدها العسكرية بدير الزور والحسكة في أعقاب تعرّض أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، لقصف بالصواريخ البالستية نفّذها الحرس الثوري.

ولعل دمشق مضطرّة إلى الانصياع للاستراتيجية الإيرانية، على ما تحمله من مجازفة عالية لجهة مجابهة الولايات المتحدة وحلفائها في ظل عدم رغبة روسيا في المواجهة أو التصعيد. واضطرار دمشق مبنيّ على الحاجة إلى المساعدات الإيرانية الاقتصادية والمالية لاسيما في مجالات الطاقة، فضلاً عن احتمالات حلول إيران لجهة انتشار قوّاتها محل القوات الروسية بالنظر إلى تعثّر موسكو في أوكرانيا واستدامة الحرب فيها، ومثل هذا التصوّر قد ينهي جهود التهدئة والعودة إلى صراعات ذات منحى طائفيّ وإقليمي أوسع.

ويساهم حظر واشنطن لأي تعاون عربيّ مع دمشق في تصدّر طهران مسار إعادة الإعمار، على ما تشكّله زيادة الاعتماد على طهران،  من شقاق أوسع بين دمشق والدول العربيّة، وفشل لمحاولة احتواء النظام، وإذا كانت طهران ودمشق تعانيان من أوضاع اقتصادية صعبة، بل وكارثية على المقلب السوري، فإن سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لن يثنيهما عن المضي في الشراكة وتعزيزها.

لا يمكن قراءة زيارة الأسد وفق رؤية تنتقص من قدرات إيران والنظام، وأنها جاءت في سياق رغبة الأسد توجيه رسالة لدول عربية تقرّبت منه وفق التبسيط الحاصل في التحليل، كما لا يمكن قراءة الزيارة بالاعتماد على المسائل الثانوية والشكلية التي تثيرها زيارات الأسد، كعدم وجود علم سوري إلى جوار العلم الإيراني في غرفة المرشد الأعلى خلال اللقاء، أو عدم استعراض الوفد المرافق للأسد، أو حتى تلك التي تعتبر الأمر “استدعاءً” إيرانياً للأسد. وأما الاحتمال الأقرب هو  أن ترث إيران الدور والحضور الروسي بالتدريج، وهو الأمر الذي يتحضّر له النظام والذي يحتاج إلى حسابات دقيقة قد تؤدي إلى حرب إقليمية يسدّد النظام والشعب السوري فيها الفاتورة الأعلى.

لأجل ذلك يمكن اعتبار الزيارة غاية في الأهمية، حيث يسعى النظام لأن تمنحه طهران “قُبلة الحياة” في مقابل أن تُمنح إيران المزيد من الحضور والتفويض والتمكين في سوريا، على حساب روسيا، وهو الأمر الذي يجيد النظام تقديمه على حساب تعطيل كل حل سياسي وطني.