دروس وعبر.. التحليل السياسي بلغة طائفية

في مقالة سابقة (سلوكيات ومواقف سياسية ضارة) ذكرنا أن أحد أسباب تخبط المعارضة وتشرذمها هو عدم فهمها الدقيق للواقع السوري، وذلك بسبب استخدامها منهجية سياسية طائفية في تحليلها. فالقضايا التي شغلت ولا تزال تشغل بال السوريين، وجلها قضايا سياسية داخلية وليدة الأزمة الكارثية المستمرة منذ أحد عشر سنة، كانت مقاربتها من قبل كثير من القوى السياسية والنخب الثقافية السورية غير دقيقة، بل خاطئة، أدت بالتالي إلى سلوكيات ومواقف واصطفافات سياسية خدمت النظام.

اللافت هو استخدام مفردات طائفية في التحليل السياسي لقضايا سياسية، بدعوى “الموضوعية” و”الواقعية”. ولم يعد يقتصر ذلك على الجمهور العادي، بل أخذ يتسلل إلى عقل النخب السياسية والثقافية، وهنا مكمن الخطورة. فعندما يفقد العقل السياسي والثقافي العارف منطقه السليم، فتأسره اللغة اليومية، بما فيها من تسطيح وتعمية، وانسياق وراء الهوبرة الإعلامية، تصبح المفردات الطائفية والمذهبية من قبيل “الطوائف والمذاهب السورية”، أو “الحكم الطائفي”، أو تخفيفاً، “الحكم الفئوي”، أو “الطائفة الحاكمة” أو “المنتفعة”، و”الطوائف المقموعة” أو “المظلومة والمستغلة”، و”الطائفة الكبيرة، والطوائف الصغيرة”، و”المحاصصة” و”التوافقية الطائفية” وغيرها، هي مفرداته في التحليل السياسي.

وإذ يسود التفكير الطائفي ومفرداته في التحليل السياسي، وبالتالي في الممارسة السياسية، فإن الجوهر السياسي للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعاني منها السوريون يصبح من المستحيل مقاربته والقبض عليه معرفياً، ليصار في خطوة لاحقة، إلى وضعه في السياقات السياسية الطبيعية لسيرورته، في إطارها الوطني الجامع.

في ضوء ذلك تصبح الطوائف والمذاهب، بل القبائل والعشائر وغيرها من انتماءات ما قبل وطنية، هي التي ترسم حدود الأوطان ومصالح السكان. هكذا منطق يصنع الخنادق، يولد الفرقة والاقتتال، يكسر الجسور، يخلق العزلة، يسيجها بأوهام يستحضرها من التاريخ، أو يستولدها من تقيات المكبوت وحراسه المعممين، ليخسر الجميع بالضرورة في البداية والنهاية.

فالسياسة المستندة إلى الأطر الطائفية والمذهبية، هي سياسة طائفية بالضرورة في المنطلق وفي المآل النهائي. بمنطق هذه السياسة لا يمكن تحقيق مشروع تنموي شامل، تكون إحدى مهامه المحورية، مهمة بناء الدولة الحديثة والحداثية، التي تدخل مجتمعاتنا في العصر الراهن، عصر الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، عصر العلم والمعرفة والسباق الاقتصادي، عصر أنماط الحياة المنفتحة والمتسامحة.

لقد خرب الاستبداد البيئة السياسية والفكرية التي تسمح ببناء الدولة الحديثة وتأصيل المفاهيم المرتبطة بها مثل: مفهوم الفرد، والمواطن، والوطن، والنقابة، والحزب السياسي، والديمقراطية، والحرية، والمجتمع المدني، وغيرها كثير، لكنه نجح بامتياز في بناء دولة جهازية استبدادية مغلقة كل شيء فيها هش وقابل للكسر، يسهل الارتداد عنه إلى ما قبله وليس إلى ما بعده، وذلك من جراء الارتكاز إلى الحواضن الطائفية والقبلية والعشائرية وغيرها من هويات صغرى قاتلة.

في سوريا لطالما افتخر السوريون بوحدتهم الوطنية وبتعايش سكان سوريا مع بعضهم، ومشاركتهم في جميع الصراعات السياسية سواء في الداخل، أم مع القوى الخارجية، بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، تحركهم روح وطنية عالية، لا يزال الرهان عليها صائباً لحماية سوريا، رغم كل محاولات النيل منها، من خلال تعميم مناخات الفساد والنهب والعوز، التي تعمل عليها بعض القوى الداخلية، وتستفيد منها القوى الخارجية في حماية مصالحها، عبر الترويج الإعلامي والسياسي الطائفي والمذهبي. لكن هذا الرهان بحاجة ماسة لتجديد وتقوية أساساته، بالسير حثيثا على طريق الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الجدية والعميقة، والانتقال من نمط الدولة الأمنية إلى نمط الدولة الديمقراطية، من مناخات الاستبداد، إلى فضاءات الحرية والمسؤولية والقانون والمشاركة.

إن الصراعات التي تشهدها المنطقة، خصوصاً في لبنان والعراق وسوريا، هي صراعات سياسية بامتياز، يراد لها من قبل بعض القوى الخارجية ومرتكزاتها المحلية، أن تأخذ شكل صراعات طائفية ومذهبية. لهذا الغرض يتم نبش التاريخ وإعادة إحياء بعض مواته وتوظيفه لتحقيق مكاسب سياسية خارجية. أقول خارجية بالتحديد، لأن الداخل يخسر في مجمل الأحوال في البداية والنهاية. وإن أحد المداخل المجربة إلى ذلك، السيطرة على العقل السياسي والثقافي العارف، واستبدال لغته السياسية في تحليل ومقاربة المشكلات السياسية في المنطقة بلغة طائفية ومذهبية. إن مشكلات المنطقة هي في الجوهر مشكلات سياسية، كما ذكرنا، تتمحور حول التخلص من الاستبداد وبناء نظام ديمقراطي علماني لا مركزي يمكنه وحده إنجاز مشاريع تنموية حداثية نهضوية تخرجها من دائرة التخلف إلى دائرة التقدم، لكنها في هذه الحالة ثمة حاجة إلى التفكير بمنطق السياسة ولغتها ومفاهيمها لمقاربتها، وليس إلى التفكير بمنطق طائفي.

لقد انتفض السوريون ضد نظام الاستبداد في بلدهم ليس من أجل تفتيت أو إضعاف الدولة المركزية بل من أجل إعادة هيكلتها بما يسمح لجميع مكونات شعبها القومية أن تشارك فيها بحرية ومسؤولية في ظل نظام سياسي ديمقراطي علماني لامركزي.