ندوبٌ جسدية لا تمحى وذكريات مؤلمة لمعتقل خرج من سجن صيدنايا مؤخراً

دمشق- نورث برس

يظن أن هناك أحداً ما مختبئ وراء الباب، يراقبه وينظر إليه باستمرار رغم تأكيد عائلته بأن ما يراه هو مجرد توهم، إلا أنه يصرُّ على كلامه.

ليس ذلك فقط، فلقد أخبر والده بأنه يعاني من تشوهات في الجهاز التناسلي أفقدته القدرة على الزواج أو الإنجاب، بعد أن أخبره أبوه، ممازحاً، بأنه سيزوجه ابنة عمه، ويعاني أيضاً من عيوب في النطق (التأتأة) وتورم في كامل جسمه.

هذا كان حال محمد سليمان (31 عاماً) وهو اسم مستعار لأحد المعتقلين، خرج بعد 11 عاماً من سجن صيدنايا، وتحديداً في الثالث من الشهر الجاري، بمرسوم عفو أصدره الرئيس السوري بشار الأسد في الثلاثين من الشهر الماضي.

لم يكن الشاب، يدري أنه سيقضي عشرينيات عمره خلف القضبان، عندما كان ذاهباً لزيارة شقيقته المتزوجة في منطقة الكسوة جنوب دمشق في السابع من أيلول/ سبتمبر 2011، بتهمة المشاركة في الاحتجاجات ضد قوات الحكومة السورية آنذاك.

حينها كان “سليمان” وهو من سكان درعا طالباً في كلية الآداب قسم الأدب إنكليزي ويسكن في المدينة الجامعية.

ولكن رغم أنه عاد “مشوهاً” نفسياً وجسدياً، إلا أن والدته البالغة من العمر (66 عاماً) تعبر عن سعادتها برجوعه إليهم، وتقول: “أنا مستعدة أن أخدمه وأرعاه طوال عمري، إنه ابني البكر الذي حرموني منه عشر سنوات”.

“تعذيب جسدي”

وبالعودة إلى ما قبل 11 عام، اعُتقل “سليمان” مع 53 شخصاً آخرين في كراج نهر عيشة التي كانت منطلقاً للاحتجاجات وقتها، ومن ثم تم إيداعهم سجن عدرا.

وحول ظروف اعتقاله، قال المعتقل السابق، “في البداية بقيت مسجوناً لمدة عشرة أيام مع ثلاثة شبان آخرين في سجن عدرا، في حجرة تحت الأرض بطابقين لا تتسع سوى لشخص واحد”.

بعدها، تم نقلهم إلى زنزانة يتواجد فيها أكثر من 50 شخصاً، “عقبها بدأوا باستجوابنا واحداً تلو الآخر، كل معتقل كان يعود من التحقيق غارقاً بدمائه وعليه آثار الكدمات والضرب، هنا تسلل الرعب والخوف إلى قلبي، وقلت في قرارة نفسي لن أصمد طويلاً، سأموت لا محال”.

يستحضر لحظة استجوابه بنفس عميق، “قال لي السجان بصوت عال وكان في يده جنزير عليه آثار الدماء، إذا ما كنتُ شاركتُ في المظاهرات، بقيت صامتاً ومندهشاً لبرهة من الزمن وأنا أتأمل ما بيده، ولكن سرعان ما عدت للواقع مع أول ضربة على أصابع يدي”.

وبينما يحاول المعتقل السابق إتمام حديثه عن كيفية تعذيبه عندما تم استجوابه لأول مرة، بدى وكأنه غاب عن الوعي وتوقف عن الحديث فجأة، ليعيده صوت أمه التي قامت بتنبيهه بضرورة استكمال قصته.

وأضاف الشاب الثلاثيني: “ملأ صراخي المكان، شعرت بأن أصابعي بُترت، ثم أعاد السجان سؤاله السابق، قلت له لا، أنا مجرد طالب يريد استكمال تعليمه ولا يفقه بالسياسة شيئاً”.

لكن كل توسلاته ومحاولاته باءت بالفشل، “فمع كل كلمة كنت أنطقها، كنت أضرب بالجنزير على وجهي واُركل على المنطقة التناسلية، بعد نصف ساعة فقط من الاستجواب، غبت عن الوعي، فتحت عيني وأنا مرمي وعارٍ تماماً في الزنزانة”.

سجن صيدنايا

استمر استجواب “سليمان” ثلاثة أيام فقط، اختلفت فيها طرق التعذيب النفسي والجسدي بين الكهرباء و”الفلقة” والتجويع والضرب على الجسم بشكل عام والمناطق الحساسة بشكل خاص والإهانات والتهديد بقتله وقتل عائلته، ليعترف بعدها بتهمة لم يرتكبها تحت وطأة التعذيب.

لم يتم محاكمة الشاب إلا بعد أن أمضى عامين في سجن عدرا، ليحكم عليه لاحقاً بـ 15 عاماً وينقل على إثره إلى سجن صيدنايا حتى لحظة إصدار العفو.

ولا توجد إحصائية دقيقة للمعتقلين الذين أفرج عنهم، منذ صدور العفو.

ويقع سجن صيدنايا العسكري على بعد 30 كيلومتراً، شمالي دمشق، ويتبع السجن لوزارة الدفاع السورية وتديره الشرطة العسكرية.

واكتسب سجن صيدنايا العسكري سمعة سيئة بسبب استخدام التعذيب والقوة المفرطة إثر عصيان قام به بعض نزلاء السجن في عام 2008.

ويتكون السجن من مبنيين، ويمكن أن يستوعبا ما بين 10000 و20000 سجين.

ومنذ بداية الأزمة في سوريا في عام 2011، أصبح سجن صيدنايا الوجهة النهائية لمعارضي السلطة السلميين وأيضا لأفراد عسكريين اشتُبِه في أنهم عارضوا نظام الحكم الحالي.

“قتلى تحت التعذيب”

وفي سجن صيدنايا تعرض الشاب وفقاً لما يرويه لنورث برس، للتعذيب بمختلف الطرق لمدة ثلاثة أشهر، وكان يجري استجوابه كل 20 ساعة لمدة أربع سنوات.

السجن “يعد انتهاكاً واسعاً لحقوق الإنسان، فالتعذيب هي الوجبة الرئيسية المقدمة، الاعتقال لأجل غير مسمى دون تهمة أو بتهمة عشوائية، كما أنه ممنوع توكيل محامي أو معرفة عائلات المعتقلين بتواجدهم”.

وزاد على ذلك، “يفتقر لأبسط الخدمات الصحية، المحظوظ سيخرج، وقتها سيعلمون أنه حي، أما سيء الحظ فيموت هناك ولا يعرف أحد أين دفنوا رفاته”.

ووصف “سليمان” السجن، بـ “الوحشي، حيث الداخل إليه إما أن يموت أو يخرج فاقد العقل”.

وأضاف بعد صمت دام بضع ثوان، “كنت شاهداً على وفاة 23 سجيناً، منهم من مات تحت التعذيب والبرد ومنهم من انتحر نتيجة الضغوط النفسية، ومنهم مات بسكتة قلبية أو أمراض جلدية ورئوية”.

وحول أعداد السجناء في صيدنايا، قال إنه لا يعلم العدد بدقة، “ولكن أستطيع أن أجزم بأن هناك آلاف السجناء من بينهم بعض القاصرين والعائلات”.

وعندما أخبروا “سليمان” بصدور عفو عام، “لم أصدق، ظننت بأنه خدعة نفسية أخرى لتحطيمنا، وحتى عندما قاموا باستدعائي لإتمام أوراق الخروج، خمنت بأنهم سينقلوننا لسجن آخر، اعتقدت بأنها أكذوبة، إلى أن حضنت أمي”.

لكن الشاب الذي قضى أكثر من عقد من عمره في السجن، يحتاج وفقاً لما يؤكده والده الذي يبلغ من العمر (70 عاماً)، لرحلة علاج طويلة حتى يتمكن من التأقلم مرة أخرى مع الحياة التي حرم منها طيلة تلك السنوات. 

إعداد: ياسمين علي – تحرير: سوزدار محمد