سبعون يوماً على الحرب الروسية – الأوكرانية

محمد سيد رصاص

قال وزير الدفاع الإسرائيلي السابق موشيه أرينز عقب انتهاء حرب تموز 2006 في لبنان: “عندما لا يستطيع جيش نظامي تحقيق أهدافه في مواجهة قوات غير نظامية فإن هذا يعتبر هزيمة له”. يمكن هنا تطبيق هذه المعادلة على الحرب بين جيش قوي وجيش أضعف.

منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا كان التركيز العسكري الروسي على العاصمة كييف من أجل السيطرة عليها، وقد جرت في اليوم الأول للحرب، إضافة للهجوم البري من الحدود الروسية القريبة، محاولة إنزال عسكرية لاحتلال مطار العاصمة وكذلك عملية كوماندوس روسية من أجل اعتقال الرئيس الأوكراني، وقد كانت هناك تصريحات للرئيس الروسي بالأسبوع الأول للحرب دعا فيها الجيش الأوكراني لتولي زمام الأمور وإسقاط الحكم في كييف، وخلال الشهر الأول من العمليات الحربية وضح فيه التركيز الروسي على منطقة العاصمة الأوكرانية، وحتى في تحليلات عسكرية غربية، بعضها رسمي، فقد كانت هناك توقعات بأن لا يصمد الأوكران أمام الروس أكثر من أسابيع على الأكثر. ولكن عند انسحاب القوات الروسية من محيط منطقة كييف بالأسبوع الخامس فقد كان هذا إعلاناً ضمنياً روسياً على أن الأهداف المعلنة من “العملية العسكرية الخاصة” لم تستطع موسكو تحقيقها.

وبالتأكيد، كانت هناك مفاجأة متمثلة بالأداء العسكري الأوكراني، ولا يمكن هذا عزوه فقط للتسليح الغربي منذ أزمة القرم عام 2014، بل يمكن عزوه لضعف أداء الجيش الروسي أيضاً، والذي لم يظهر فقط في معارك منطقة كييف بل هو واضح في معارك الشرق الأوكراني وحتى في قتال معركة مدينة ماريوبول التي لم يستطع الجيش الروسي للآن حسم معركتها البادئة منذ يوم الرابع والعشرين من شباط، وهو أمر تتناثر الكثير من التحليلات المتفاجئة به في صحف غربية. هذا الفشل الروسي في تحقيق الأهداف العسكرية أتاح إمكانية تشكيل منصة لواشنطن من أجل إنشاء مستنقع روسي في أوكرانيا، عبر تسليح نوعي غربي أميركي- أوروبي للجيش الأوكراني بدأ يتدفق منذ الأسبوع الثالث للحرب، من دون تورط حلف الأطلسي في مواجهة مباشرة مع موسكو، وذلك من أجل بناء وضع عسكري في الميدان يجعل الحرب طويلة، وهو ما يناسب واشنطن ولا يناسب موسكو.

في الجانب السياسي، ظهر هناك معسكر أميركي- أوروبي- ياباني موحد ضد موسكو، وفي المقابل لم يظهر هناك معسكر مقابل، بل كانت روسيا لوحدها، حيث لم ترتقِ المواقف الصينية  تجاه موسكو في الحرب إلى مستوى الموقف الحليف ولا إلى مستوى موقف عضو المعسكر الواحد، وهذا من العلامات البارزة في عالم ما بعد 24 شباط 2022، التي تقلل قوة الآمال بإمكانية كسر القطبية الأميركية الأحادية للعالم القائمة منذ خريف عام 1989، هذا الكسر الذي لا يمكن تحقيقه بدون الوصول إلى معسكر صيني- روسي مضاد، وهو ما يظهر من معطيات الحرب الروسية-الأوكرانية بأنه لم يتحقق بعد وهو غير قائم بل أصبح أبعد بعد تلك الحرب فيما كانت إمكانات حصوله أقرب مما قبلها، ويبدو أن قراءة الصينيين للضعف الروسي وللقوة المستجدة لثالوث الولايات المتحدة (وبريطانيا)- الاتحاد الأوروبي- اليابان تجعلهم يترددون كثيراً، ليس فقط عسكرياً بل وحتى سياسياً، في أن ينخرطوا في مواجهة الغرب كما فعل ماوتسي تونغ مع ستالين والكوريين الشماليين في الحرب الكورية عام 1950 ضد واشنطن.

من جهة أخرى، فإن الموقف الإيراني من الحرب كان متردداً، وأقرب للحياد وربما هذا يعود لحساسية طهران تجاه موضوع الأقليات القومية الذي اتخذته موسكو ذريعة للحرب، وقد لعبت واشنطن معها، منذ شباط الماضي في مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني، ورقة الاستجابة لمطلبي طهران في تنحية موضوعي السياسة الإقليمية الإيرانية والصواريخ الباليستية جانباً وعدم ربطهما بالموضوع النووي بخلاف عشرة أشهر ماضية من تلك المفاوضات من أجل إغراء الإيرانيين بالتوقيع السريع على الاتفاق في ذروة التوتر الأميركي- الروسي، وإذا كان هذا لم يدفع الإيرانيين للتوقيع فإنه قد جعل طهران تحسب الكثير من الحسابات في الموضوع الأوكراني وجعل موسكو تحاول عرقلة التوقيع باعتبارها جزءاً من (اتفاق 5+1) من خلال طرح ضرورة استثناء العلاقات الروسية-الإيرانية الاقتصادية من العقوبات الأميركية-الأوروبية ضد الروس وتضمين هذا في النص الموقع، وهو ما أغضب وأربك الإيرانيين.

والآن في شهر أيار وبعد أن لمست واشنطن ضعف روسيا في الحرب نرى الأميركان أكثر تصلباً في المفاوضات مع الإيرانيين وربما قد وصلوا إلى مرحلة أنهم لم يعودوا يريدون الاتفاق مع طهران. من جهة ثالثة، هناك دول كانت تلعب على الحبال الأميركية- الروسية منذ عام 2016، مثل تركيا، نراها الآن في عالم ما بعد 24 شباط 2022 قد أصبحت أكثر قرباً من واشنطن وعلى مسافة أبعد من موسكو، كما أن محاولة رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان أن يكون مثل أردوغان في اللعب على الحبال قد قادت لإطاحته من منصبه بعد قليل من الحرب الروسية- الأميركية ولو بوسائل برلمانية.

بالمجمل، الحرب التي هي وفق تعبير كلاوزفيتز “استمرار للسياسة بوسائل أخرى”، تستطيع كشف ما كان كامناً في توازنات القوى بالعلاقات الدولية، إذا كانت حرباً تمثل محصلة لتجابه القوى العالمية الرئيسية، أو نقطة تركيزها. أوكرانيا الآن هي تلك البقعة الجغرافية التي هي كشًافُ لتلك المحصلة، وهي التي يتم فيها الآن أو عبرها رسم لوحة العلاقات الدولية القادمة، كما جرى بأعوام 1918 و1945 و1989.