أُدخل اللاجئون السوريون مرغمين إلى حلبة التنافس الانتخابيّ في تركيا. الأزمة الاقتصادية من ناحية وهشاشة البنية التحتية في بعض الولايات والمناطق من ناحية أخرى، حفّزت المعارضة إلى تلقّف مسألة اللاجئين على ما تمثّله من إحراج لحزب العدالة والتنمية ودائماً على هدي أسباب أعمق تتمثّل في فشل سياسات أردوغان السورية واستدامة الصراع.
تتوزّع الاتجاهات السياسية، فيما خصّ ملف اللاجئين، إلى فاشية تحتقر العرب وبالتالي السوريين أو بمعنى أوسع اتجاهات تحتقر اللاجئين برمّتهم، وأخرى براغماتية ترى أن إمكانية الاستثمار في ملف اللاجئين لا تزال قائمة، فيما يدعو الاتجاه الذي تمثّله المعارضة الرسمية إلى وضع حدّ لهذا الملف وصولاً إلى تسوية نهائية لئلا تسوء الأمور الداخلية بما يهدّد سلامة المجتمع واحتمالات انزياحه نحو مزيد من الكراهية وأعمال العنف بحق اللاجئين.
ولئن كان ممثّلو الاتجاه الفاشي على ضآلة حضورهم السياسي قد روّجوا لسياساتهم الراديكالية المتمثّلة بطرد وترحيل وإعادة اللاجئين عنوة، ويتجلّى ذلك في خُطب وتصريحات زعماء أحزاب الجيّد والنصر والحركة القومية، فإن الاتجاه البراغماتي والذي يمثّله العدالة والتنمية بات يروّج على نحو تبشيري لرؤيته في وعود “العودة الآمنة والكريمة” لتقليص هامش المناورة في هذا الملف قبل موعد الانتخابات العام المقبل، وأحكام البراغماتية تقتضي إعلان أردوغان نية بلاده إعادة مليون لاجئ إلى سوريا، فضلاً عن إرساله وزير داخليته، سليمان صويلو، لافتتاح قرية سكنية بالقرب من تجمّع مخيمات قريبة من بلدة سرمدا الحدودية شمال محافظة إدلب، ووعودٍ ببناء مئة ألف شقة سكنية تباعاً، وإذا كان أردوغان يفاخر بإعادته 500 ألف لاجئ في وقت لاحق، فإن الأمر في معظمه كان لأجل التلاعب بديمغرافيّة المنطقة الكردية وخلق حزام سنيّ موالٍ لأنقرة.
وإمعاناً في التلاعب بديمغرافية المنطقة، أعلن الرئيس التركي أن “المشروع الذي سننفذه مع المجالس المحلية لثلاث عشرة منطقة مختلفة، وعلى رأسها اعزاز، جرابلس، الباب، تل أبيض ورأس العين، اكتمل تماماً”، ولعل التركيز على هذه المدن الحدودية يؤكّد مضي أنقرة في سياسات الهندسة السكانية، فضلاً عن أن التركيز على أسماء هذه المناطق الحدودية فيه شيء من إرضاء التيارات الفاشية التركية المتحفّزة لتحطيم الوجود الكردي جنوباً والمؤمنة بأفكار إعادة تشكيل الجوار، وبذا يحوّل أردوغان ملف اللاجئين من ورقة ضغط محلّية إلى دعاية انتخابية.
لطالما عنت العودة الآمنة والكريمة، في الأدبيات الخاصة بحل الأزمة السورية، عودة اللاجئين إلى مناطق سكناهم الأصليّة، لئلا تتسبب العودة في صراعات أهلية لاحقة بين سكان المناطق الأصليين وبين “المستوطنين”، فيما عنت العودة الآمنة الوصول إلى حل سياسيّ وهو الشرط الأوّلي الذي يتوقّف عليه مبدأ العودة، خلا ذلك فإن العودة الكريمة تعني عدم تعقّب اللاجئين أو التضييق عليهم ومن ثم ترحيلهم وقد شهدت تركيا حالات ترحيل متواصلة، بدت شكلاً من أشكال العقاب، وعليه فإن إعادة اللاجئين تعني في مكان ما ترحيلهم حتى وإن بلغ عددهم مليون لاجئ ذلك أن اللاجئ لن يخيّر بين البقاء والرحيل.
غير أن حمّى إعادة اللاجئين ظهرت أعراضها على خطاب السلطة التركية بعد قليل من تصريح لزعيم حزب الشعب الجمهوريّ، كمال كليجدار أوغلو، الذي تعهد في شهر تموز/يوليو العام الماضي بقدرته على إعادة اللاجئين السوريين في غضون عامين، وقد جاء تصريح أوغلو ضمن سياق أوسع تحدّث فيه عن إمكانية الجلوس إلى نظام دمشق والتدخّل لحل الأزمة السورية، وبالتالي وقف ارتدادت هذه الأزمة على تركيا، ورغم أن الحزب الحاكم استهجن تلك التصريحات ووصفها بالعنصرية، إلّا أنه سرعان ما بدأ بحملات ترحيل وإبطال إقامات مخالفاً أحكام القانون التركي، الأمر الذي فُهم بأنه رغبة في مجاراة خطاب المعارضة المناهض لوجود اللاجئين على الأراضي التركية، وليبلغ عدد المرحّلين العام الماضي فقط 100 ألف لاجئ معظمهم سوريون وما يزيد عن 20 ألف لاجئ في الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام، وهو ما يؤكّد رغبة أردوغان إرضاء الرأي العام التركي على حساب اللاجئين، ذلك أن ما نسبته 66 بالمئة من الأتراك يرون وجوب عودة السوريين إلى بلادهم تبعاً لبحث أعدته مؤسسة الديمقراطية الاجتماعية.
تلاشت إذاً خطابات “أنتم المهاجرون ونحن الأنصار”، وأن السوريين جزء من العالم العثمانيّ، وأن اللاجئين لن يعودوا قبل الوصول إلى حلّ سياسيّ، لتحلّ محلها تصريحات إعادة اللاجئين وبأرقام مهولة، ولئن شكّل اللاجئون المادة التي ابتزّت من خلالها تركيا أوروبا، فإنها تتحوّل الآن إلى ورقة انتخابيّة، ومن يرى سلسلة “الاستدارات” التي دمغت سياسات حكم حزب العدالة والتنمية يعي كيف يمكن أن تشكل إعادة/ترحيل اللاجئين نجاحاً آخر للحزب، خاصة وأن الترحيل سيعني بالضرورة تشكيل حزام سكاني/أمني قائم على أساس إبعاد الكرد عن الحدود ما أمكن، وبطبيعة الحال ستبقى الوصاية التركية قائمة على تلك المناطق بوصفها مناطق إدارة ذاتية تتبع لأنقرة أو بوصفها ولاية أمنيّة، ويساعد في ذلك استمرار تركيا الحفاظ على الفوضى في مناطق سيطرتها وعدم تشكيلها هياكل حكم محلّي قابلة للحياة.