عندما لاتُحَل القضايا

محمد سيد رصاص

تفككت دول عديدة في القرن العشرين كانت تعبر عن تجارب أممية ما فوق قومية، مثل الدولة العثمانية وباكستان (لما انفصلت باكستان الشرقية عام1971) ويوغسلافيا والاتحاد السوفياتي وتشيكوسلافاكيا. وقد كان واضحاً من هذه التجارب، في لحظة التفكك وقبلها وبعدها، أن القضايا القومية فيها لم تحل، وأن تجارب الدول المذكورة في محاولة إنشاء رابطة ما فوق قومية، سواء كانت الإسلام أو الاشتراكية الماركسية، لم تكن ناجحة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هناك دولاً كان قد انفجر فيها الرابط الوطني بحكم أنه لم يعد لاصقاً كافياً ليشعر فيه المواطن بأنه متساوٍ في أرضه مع آخرين أو يستطيع التعبير عن ذاته بحرية، وهذا ما وجدناه في العراق منذ عام 1961 لما انفجرت القضية الكردية ووجدناه في السودان مع انفجار قضية الجنوب عام 1983 (رغم اتفاقية أديس أبابا التي أعطت الحكم الذاتي عام 1972 للجنوبيين) وفي سيريلانكا لما انفجرت قضية التاميل عام 1983 وفي تركيا لما نفجرت القضية الكردية منذ عام 1984.

في حالات عديدة من المذكورة أعلاه، كان يُظَن بأنه يوجد هناك أبنية متماسكة، ولكن عندما كان يحصل الانفجار فإن ما يتمظهر كان يقول بأن هناك قضايا لم تحل وبأن ما كان موجوداً على السطح أوفي الواجهة هو ورق سيلوفان رقيق يغطي محتويات قابلة للانفجار أو كانت تتجمع للانفجار أو رماداً قابلاً للاشتعال من جديد. في حالات أخرى، يمكن أن يظهر ما تحت السطح في لحظة ضعف قبضة العاصمة عند قلب نظام قديم واستلام سلطة جديدة لمقاليد الأمور، كما جرى بعد انتصار الثورة الإيرانية وإزاحة الشاه في 11 شباط 1979، عندما انفجرت ثورة كردية ضد الخميني، وثورة عربية، وثالثة أذربيجانية، ولكن الحالات الثلاث تم قمعها بالعنف، وهي حتى الآن قضايا لم تحل في الواقع الإيراني القائم، ولكنها في مجرى عام1979عبرت عن بروز على السطح لقضايا كان قد أهيل عليها تراب قليل السماكة في عهد الشاه، حيث ظهرت بالأربعينيات وفي لحظة ضعف قبضة العاصمة طهران جمهورية مهاباد الكرد وجمهورية أذربيجان ولو لفترة قصيرة من الزمن. أيضاً في فترة ما بعد سقوط حكم صدام حسين عام 2003، وحتى في لحظة ضعف قبضته بعد هزيمته في حرب 1991، ظهر على السطح الشرخ الشيعي-السني وكذلك القضية الكردية. وفي سوريا ظهرت القضية الكردية على السطح عام 2004 بوصفها قضية لم تحل بعد في البناء السوري القائم منذ عام 1946، وفي الأزمة السورية 2011-2022 تمظهرت القضية الكردية بقوة من جديد، سواء عبر مطالب قومية قدمتها أحزاب (المجلس الوطني الكردي)أو عبر حل (الأمة الديمقراطية ضمن اتحاد ديمقراطي) الذي يقدمه (مجلس سوريا الديمقراطية- مسد) لبناء سوريا جديدة بكل تنوعاتها في ظل بناء وطني جديد وفق مبدأ ديمقراطي.

يمكن، هنا، المقارنة بين الحلات المذكورة والحالة الفرنسية، حيث فرنسا عاشت حرب أهلية بين الكاثوليك والبروتستانت (الهوغنوت) بين عامي1562و1598حتى أتى مرسوم نانت ليقول بحالة التسامح والمصالحة بين طرفي الحرب الأهلية ،ولكن في عام1685قام الملك لويس الرابع عشر بنقض مرسوم نانت وطرد الهوغنوت لخارج فرنسا حيث ذهبوا  لجنيف في سويسرا ولجنوب انكلترا وهم كانوا يمثلون فئة واسعة من البرجوازية الحديثة التجارية والمصرفية. في فرنسة القرن العشرين، بعد أن تعلمنت وتم فصل الدين عن الدولة، ظهرت القضية الكاثوليكية- البروتستانتية الفرنسية بأنها قد حُلًت من خلال حالتي ترشح شخصين بروتستانتيين للرئاسة ،هما جاك شابان دلماس عن الحزب الديغولي وليونيل جوسبان عن الحزب الاشتراكي،وكلاهما كانا قد توليا منصب رئيس الوزراء،في بلد البروتستانت هم أقلية ضئيلة لا تتجاوز الاثنان بالمئة من السكان،ورغم أن الاثنان لم ينجحا في الانتخابات الرئاسية بعد أن ترشحا ،ولكن لم يثر أي فرنسي موضوع بروتستانتيتهما، بل كانت الاصطفافات معهما أو ضدهما وفق الاعتبارات الحزبية فقط، وهذا ما أعطى مؤشراً على أن فرنسا قد تجاوزت القضية الكاثوليكية-البروتستانتية وأنها قضية قد حُلًت، فيما في فترة الحرب الأهلية الفرنسية كان هناك نهر من الدماء ثم في عام 1685 تم طرد ملايين الفرنسيين البروتستانت لخارج الحدود بأمر الملك وبتشجيع من الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية وبابا روما.

كتكثيف: الحرب الروسية- الأوكرانية الراهنة، التي هي حرب عالمية مصغرة ولكن في بقعة جغرافية صغيرة استخدم فيها حطب مشتعل اسمه العلاقة الروسية – الأوكرانية  ولكنه لفترة طويلة من الزمن كان رماداً تحت التراب أو حطب جاف ألقي عليه الماء البارد سواء كان هذا الأممية الاشتراكية أو قبل ذلك في زمن القياصرة عندما كان يشار للأوكرانيين بـ”الروس الصغار”، تعطي مثالاً صارخاً عن ثمن القضايا عندما لاتُحَل.