التصعيد التركي إلى أين؟

صعدت تركيا من عملياتها العسكرية في شمال شرقي سوريا، طائراتها المسيرة تجوب الأجواء على مدار اليوم والساعة، عمليات اغتيال وقصف للمدن والبلدات والقرى، كل ذلك وسط تهديدات متواصلة بعملية عسكرية جديدة بحجة مكافحة الإرهاب، وحماية الأمن القومي التركي، وفي العمق يبقى هدف القضاء على الإدارة الذاتية في هذه المناطق في صلب الاستراتيجية التركية، لاسيما بعد محاولات تركيا الهبوط الأمن في دمشق، على وقع التحولات التركية الإقليمية، ونشدان المصالحة مع مصر ودول الخليج العربي.

اللافت، أن التصعيد التركي ضد شمال شرقي سوريا، جاء بعد أيام من العملية العسكرية التي أطلقتها أنقرة ضد مناطق في إقليم كردستان العراق باسم قفل المخلب بحجة محاربة حزب العمال الكردستاني، وهو ما يوحي بوجود مخطط تركي كبير، يتجاوز منطقة محددة إلى فرض واقع أمني تركي على كامل المنطقة الحدودية مع سوريا والعراق، في إطار تطلّع تركيا إلى تحقيق ميني ميثاق ملي، ينشده أردوغان لتحقيق أحلامه القومية الجامحة.

التصعيد التركي يحمل مؤشرات خطرة، إذ من شأنه:

  1. ضرب مقومات الأمن والسلام في شمال شرقي سوريا، وإعاقة عمليات قوات سوريا الديمقراطية ( قسد) ضد داعش، في وقت المنطقة بحاجة ماسة للأمن ومواصلة محاولة إرهاب “داعش” الذي يحاول العودة مجدداً إلى الساحة، لاسيما بعد أحداث سجن الحسكة، وما يجري في مخيم الهول من تحركات لداعش.
  2. إن التصعيد التركي يشكل مخالفة صريحة للاتفاقيات التي وقعت تركيا مع كل من روسيا والولايات المتحدة، عقب العدوان التركي على المنطقة الواقعة بين رأس العين – تل أبيض باسم (نبع السلام)، ولعل ما يشجع تركيا على التصعيد هو صمت الجانبين الروسي والأميركي على هذه الاعتداءات رغم وجود ضمانات بحماية الأمن والأهالي في هذه المناطق.
  3. إن التصعيد التركي يأتي على شكل استغلال لإنشغال العالم، لاسيما الولايات المتحدة بالحرب الروسية على أوكرانيا، وعندما تستغل تركيا هذه الأزمة، فهي تسعى إلى تحقيق عدة أهداف، منها ما هو متعلق بفرض أجنداتها على شمال شرقي سوريا، ومنها ما هو متعلق بالحصول على تنازلات من روسيا وأميركا في ملفات كثيرة عالقة، على رأسها تسوية خلافاتها الكثيرة مع الولايات المتحدة بغية الحصول على صفقات سلاح جديدة.
  4. في حسابات أردوغان، إن كل شيء ينبغي أن يخدم موقفه في الداخل، لاسيما مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى تراجع شعبيته، وعليه يرى في التصعيد ضد شمال شرقي سوريا وإقليم كردستان العراق فرصة ذهبية لزيادة شعبيته وحزبه على وقع العزف على وتر التيارات القومية التركية المتطرفة.
  5. إن التصعيد التركي الحالي هو أشبه بمحاولة اختبار بعد أن فشلت أنقرة في وقت سابق في شن عملية عسكرية جديدة ضد مناطق شمال شرقي سوريا بسبب الرفض الأميركي والروسي، ولعل ما يشجعها على المضي في نهج الاختبار، هو قلة التكلفة العسكرية للتصعيد، لطالما أنه يقوم على نشاط الطائرات المسيرة، وهذا الأخير لا يحتاج إلى الكثير من الخطط والإمكانات بقدر الحاجة إلى النشاط التجسسي والمعلوماتي.                               

في ظل هذه الدوافع والأهداف التركية، السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو التصعيد التركي إلى أين؟. دون شك، تسعى تركيا بكل قوة إلى حصر الإدارة الذاتية في دائرة ضيقة، وصولاً إلى وأدها ودفعها إلى الانهيار تحت وقع عوامل داخلية، من وطأة التصعيد العسكري، والحصار السياسي والدبلوماسي والاقتصادي، وربما في صلب أهدافها دفع الإدارة الذاتية عبر ذراعها العسكري (قسد) إلى مواجهة غير متاكفئة بحكم فارق القوة، والخلل في الموازين العسكرية، وهو ما تعرفه الإدارة الذاتية جيداً، وعليه تحرص على عدم الذهاب إلى هذه المواجهة بشروط تركية، واقتصار عملياتها العسكرية ضد الوجود التركي في المناطق السورية المحتلة، وإن كانت تدرك جيداً مدى النزيف الذي يلحق بها، وما يتعرض له الأهالي من قتل وعدم استقرار على شكل تفكير دائم بالهجرة إلى الخارج.             

ما يغيب عن حسابات أردوغان، هو أن استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، والتوقعات بإطالة أمدها، لن يكون في صالح خططه، إذ من شأن إطالة هذه الحرب زيادة الحساسية والخلافات مع روسيا، بحكم أن تركيا في النهاية هي عضو في الحلف الأطلسي وتتبنى موقفه، وهو ما يعني أن الصمت الروسي في سوريا ضد تركيا قد يتحول إلى موقف سياسي، ولعل من أولى مؤشرات هذا المعطى عودة الطائرات الروسية إلى قصف مناطق في شمال غربي سوريا، بعد إعلان تركيا إغلاق أجوائها أمام الطائرات الروسية التي تحمل جنوداً ومعدات عسكرية إلى سوريا، كما أن رهانها على استغلال انشغال الولايات المتحدة بالحرب الروسية على أوكرانيا للحصول على تنازلات منها في منطقة شمال شرقي سوريا، قد لا يكون دقيقاً في ظل الأهمية الحيوية لهذه المنطقة في الاستراتيجية الأميركية، ومصداقية ذلك للسياسة الأميركية تجاه سوريا والعراق، والأهم هنا، هو مدى قدرة الإدارة الذاتية في التعامل مع التصعيد التركي، وعدم الانجرار إلى مواجهة عسكرية تنشدها تركيا، إذ من شأن ذلك بقاء التصعيد التركي في حدود التكتيك دون تحقيق الأهداف الاستراتيجية.