دور الأزمة السورية في عودة القطبية الروسية

أتيح لي عدد من الفرص للقاء دبلوماسيين روس واحد منهم كان مسؤول العلاقات الدولية في البرلمان الروسي (الدوما)، وكان النقاش يدور فيها حول موقف روسيا من الأزمة التي تسبب بها النظام السوري لبلده وشعبه. فعندما كان يقال لهم ليس من المنطقي أن يأخذوا جانب النظام ويتبنوا روايته، وهم قد عانوا ما عانوا من حكم شمولي استبدادي لعقود من السنين، فقضية الحرية لا تتجزأ. كانوا يجيبون بدبلوماسية أنه لا جدوى من التركيز على لوم هذا الطرف أو ذاك من أطراف الأزمة السورية، بل البحث عن مخارج سلمية لها، وأنهم في سياق بحثهم عن هذه المخارج لا ينحازون لطرف ضد آخر. لكن ما إن يخرجوا للإعلام حتى يتبنون رواية النظام للأحداث، التي تقول بوجود عصابات مسلحة تعتدي على المدنيين وتدمر الأملاك العامة والخاصة، رواية لطالما رددها النظام منذ بداية الانتفاضة السورية، ورددها من ورائه الروس للأسف بدقة وأمانة لافتتين، دون أي محاولة منهم لمعرفة دور النظام في تحولها من انتفاضة سلمية إلى انتفاضة مسلحة.

أذكر جيداً عندما التقيت بمسؤول العلاقات الدولية في مجلس الدوما الروسي يصحبه السفير الروسي في دمشق، ضمن وفد من هيئة التنسيق الوطنية، أنه بدا متفهماً جداً لطروحات وروايات أعضاء الوفد، وبشيء من الاستغراب قال: “كل هذه المعلومات التي تقدمونها لنا يصلنا عكسها”. فقلت له الجواب بسيط وهو: “أن القيادة الروسية للأسف تفتح أذانها فقط لروايات النظام، وتصدق كل ما يقوله حتى عبر إعلامه”. ومع أنه وعد في نهاية الاجتماع بأنه سوف ينقل المعلومات التي حصل عليها إلى الدوما الروسي، وخصوصاً إلى لجنة العلاقات الدولية التي يرأسها، وإنه يعتقد بأن على روسيا أن تأخذ موقفاً متوازناً من “أطراف النزاع” في سوريا حسب رأيه، بل سوف يدعو زملاءه النواب الروس لممارسة الضغط على حكومة بلادهم لتضغط بدورها على السلطة السورية لتتبنى مواقف إيجابية من حل الأزمة السورية. وكنا في حينه قد رحبنا بموقفه هذا، وطلبنا منه أن يفي بتعهده لنا حرصاً على العلاقات التاريخية بين روسيا وسوريا، وعلى مصالح روسيا بصورة عامة، لكنه في المساء عندما ظهر على الإعلام صرح عكس ذلك تماما وتبنى رواية النظام.

وفي لقاء آخر مع السفير الروسي الذي دعانا إلى مفاوضات غير رسمية مع النظام في موسكو، سألت السفير وهل تضمن بلاده أن ينفذ النظام السوري ما يتم الاتفاق عليه، أجاب بصراحة خالية من أي دبلوماسية أنهم لا يضمنون. فقلت له عندئذ هل يعقل أن تقوم روسيا وهي دولة كبيرة ومسؤولة بنوع من العلاقات العامة خدمة للسلطة السورية، ألا تدرك أنها في سلوكها هذا تعادي غالبية الشعب السوري، وتضع مصالحها في مهب الريح؟ أجاب، وقد عادت إليه روحه الدبلوماسية، بأن بلاده لا تنحاز لأي طرف من أطراف الأزمة السورية.

لماذا تتصرف روسيا بهذا الشكل؟ ما الذي يدعوها حقيقة للوقوف إلى جانب النظام والدفاع عنه، رغم الأضرار الدبلوماسية والسياسية التي لحقت بها عربياً ودوليا؟ هناك من يقول إن المصالح الروسية في سوريا، وخصوصا تواجدها العسكري، وضرورة الحفاظ عليها تلعب دوراً حاسماً في ذلك. وثمة من يقول إن سوريا بالنسبة للروس هي آخر مكان لنفوذهم في الشرق الأوسط، وسوف يدافعون عنه حتى النهاية. وثمة رأي آخر يفسر وقوف القيادة الروسية إلى جانب النظام السوري، كنوع من الالتزام الذي تعهد به الاتحاد السوفييتي، الذي ورثته روسيا، في إطار اتفاقية الصداقة والتعاون التي وقعت بين سوريا والاتحاد السوفييتي قبل انهياره.

في الحقيقة أجد جميع هذه الأجوبة غير كافية، مع أنها قد تكون حاضرة جزئياً وراء الموقف الروسي. الصحيح هو أن روسيا قد وجدت في الأزمة السورية مدخلاً لها للخروج إلى المسرح الدولي كقطب من أقطابه، بعد جملة الإهانات التي وجهت لها من قبل أميركا والدول الغربية عموماً سواء في البلقان أو في الأزمة الجورجية أو الأرمينية، أو الليبية، أو حتى فيما يتعلق بقضايا التسويات السياسية بين العرب وإسرائيل، وغيرها. لقد اجتمعت جملة من الظروف في حينه (تأزم الاقتصادات الغربية، خسائر أميركا في العراق وأفغانستان، انتعاش الاقتصاد الروسي وغيرها) لتؤسس أرضية صلبة لخروج النزعة الوطنية الروسية (إعادة الروح للقطبية السوفيتية) التي أطلقها فلاديمير بوتين.

إن من يراقب الإعلام الروسي وكذلك أداء الدبلوماسية الروسية يلاحظ بجلاء تركيزها على زوال الأحادية القطبية من المسرح الدولي، وأن العالم قد دخل في مرحلة تعدد الأقطاب، وأن روسيا لن تقبل بعد الآن أي تهميش لها فيما يتعلق بالقضايا الدولية، وما يجري في أوكرانيا اليوم وقبلها ما جرى في كازاخستان وفي جورجيا هو اختبار عملي للقطبية الروسية المستجدة. وإذا صح ذلك فإن من حق المواطن السوري أن يتساءل: ألم تجد روسيا سوى إراقة الدماء السورية مدخلاً إلى عالمها المتعدد الأقطاب؟