فرص التعاون بين شرق الفرات وغربه

من المرجّح أن تسعى الولايات المتحدة إلى ابتداع مسار جديد يسعى إلى التقريب بين شرق الفرات وغربه، إذ يقتضي التضييق على النظام وروسيا المضي في الطريق الوعرة هذه، فضلاً عن أن واشنطن بدأت تعيد رسم خطط بقائها في سوريا وتوسيع مروحة تحالفاتها. غير أن هذا المسار يمرّ بالموافقة التركية أولاً وأخيراً، الأمر الذي يخفّض من سقف التوقعات التي تراهن على حصول اختراق من هذا النوع، وقد سبق لسوريين أن فكّروا في حدوث أمر كهذا، سرعان ما بدده جلف تركيا وغطرستها وعملياتها العسكرية المتواصلة وانتهاكات فصائل المعارضة الموالية لها.

وإذا كان صحيحاً أن نهر الفرات لا يعكس بدقة مناطق سيطرة القوى المسلّحة إلّا أن هذا الخطّ النهريّ يسهّل علينا الحديث عن منطقتين دخلتا في دوامة صراع مسلّح غير مرّة، فالمقصود هنا، مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” ومناطق سيطرة تركيا والفصائل الموالية لها.

على أن رسم واشنطن، في أيّ وقت لاحق، مساراً جديداً للتعاون بين هاتين المنطقتين يحمل الكثير من التفاؤل الكاذب وحسّاً بالتذاكي، ذلك أن الواقع والمشكلة أعقد من فرد الخرائط والنظر إليها من فوق حيث يبدو كل تعاون ممكناً، من ذلك أيضاً أن تبذل أميركا جهداً موازياً عبر إقامة ورشات واجتماعات تتسم بقول خلاصات غير قابلة للتطبيق.

الأصحّ والأصعب هو البحث في جذر المسألة، فالسلام يمرّ بتراجع تركيا عن مقاربتها العدمية للحالة الكردية السورية، وأبعد من ذلك، هو أن السلام رهين بإعادة أنقرة النظر في  المسألة الكردية في تركيا وفي جوهر العلاقة مع الأرخبيل الكردي الذي يطوّقها، ومثل هذا الطريق طويل ومتعب وبحاجة لأن تُفرد واشنطن لأجله وقتاً وجهداً غير عاديين، والأهم أنه لا يقع حتى اللحظة في دائرة اهتمامها، وهو ما يجعل كل تصوّر للتقريب بين الإدارة الذاتية وكرد سوريا وبين تركيا أمراً أقرب إلى التمنّي، وأما الرهان على العودة إلى سياسة “صفر مشاكل” التي فقدت كل بريقها فلا تشمل الكرد، سواء أكانوا داخل أم خارج تركيا، فضلاً عن أن هذه السياسة فقدت خواصها الاستراتيجية وباتت أقرب إلى التكتيكات المؤقتة.

الواضح، والثابت على طول الخط، هو أن بين شرق الفرات وغربه ما صنع الحداد: استيطان وتغيير ديمغرافي مشفوع باحتلال أحلَّ سوريين  مكان سوريين آخرين ضمن عملية تطهير عرقي تركية؛ فالكرد لا تناسب حياتهم هذه البيئة وفق تصريح ينزُّ شوفينية وعنصرية للرئيس التركي إبان احتلال جيشه منطقتي رأس العين/سرى كانيه وتل أبيض أواخر عام 2019، وفيما يسكن مستوطنون جاؤوا محمولين على الدبابات التركية وقوة قهر سلاح المليشيات، فإنّ أوضاع مخيّمات نازحي عفرين ورأس العين وتل أبيض تشهد مآسٍ يومية، والحديث هنا عن عشرات آلاف النازحين المقتلعين من بيوتهم وأراضيهم، وأما التذكير بسجل انتهاكات وارتكابات الفصائل، شبه اليومية، فإن ما تمّ رصده من قبل النشطاء والمنظّمات الحقوقية فقط يشي بالمعنى المراد قوله.

 وداخل هذا الجحيم الموصوف، ثمّة من يرى في أن “السياسة” تقتضي القبول بكل هذه السياسات الفاشية والعنصرية وتجاوزها، وعليه فإن لا مشكلة في أن يمدّ كرد سوريا يدهم في الهواء عسى أن تصافحها يد قوى غرب الفرات بإشارة من مشغّلهم التركيّ، وجدير بالملاحظة لأجل تبيان الصورة التذكير بمشاهد الاحتفاليات التي تمت في 15 آذار/مارس بمناسبة الذكرى السنوية للثورة السورية في مدن شمال وشرقي سوريا، والتي حصلت وكأنها عربون أو دفعة تحت الحساب للتعاون مع غرب الفرات.

الاختلاف والتباين بين شرق الفرات وغربه يقودنا للتركيز على حالة المركزية والانضباط العسكري في شرق الفرات، والمختلفة جذرياً عمّا هي عليه من فلتان عسكري وفوضى سلاح في غربي الفرات، ثم كيف يمكن تصوّر كيان عسكري منسجم يضم كيانين مختلفين كلّياً، بل كيانين باتا أقرب إلى الأعداء الأبديين منهما إلى الأصدقاء المحتملين؟  والتذكير بواقع حال الفصائل غربي الفرات يفيد المعنى المراد قوله، فهي  تخوض على نحو شبه يوميّ معارك داخلية بين فصيل وآخر أو ضمن الفصيل نفسه، ودائماً ما تكون الصراعات لأجل مسائل الاحتكارات والنهب والسطو أو لأي سبب سافل آخر.

قد تكمن المقاربة الأدق بأن لا تسعى ترويكا الحكم في شمال شرقي سوريا (الإدارة الذاتية وقسد ومسد) إلى التركيز على مثل هذا المسار الأقرب إلى الوهم، ذلك أنها في هذه الأثناء محكومة بمسألتين تحتاجان المزيد من الوقت والصبر: الأوّلى، مراقبة مآلات الوضع في أوكرانيا فالقوتان الموجودتان في سوريا تخوضان حرب تكسير عظم هناك، أما المسألة الثانية فتتمثّل في انتظار ما ستفضي إليه الانتخابات التركية العام المقبل 2023، وبين حالة الانتظار هذه وتلك، يبقى أن تسعى الإدارة الذاتية إلى تنمية مناطقها وتلافي المشكلات الاقتصادية والمعيشية التي قد تتنامى وتظهر تباعاً، كما أن إعادة الناس إلى الحقل السياسي والمشاركة في مسائل صنع واتخاذ القرار قد يكون هدفاً أسمى من المضي في مغامرات تفضي في نهاية المطاف إلى استثارة روسيا والنظام واستعدائهما على نحوِ بيّن وربما مكلف.

والحال، إن تزجية الوقت وتبديده على أفكار تخصّ التقارب والتعاون بين شرق الفرات وغربه ستبدو من قبيل الأفكار غير العملية والمشي في طريق الوهم بداعي التجريب وفتح الأبواب المغلقة، فالأولوية التركية ما تزال تحطيم أي مشاريع يكون كرد سوريا جزءاً منها، فيما مسايرة الأميركان في مثل هكذا مسار لن يكون أكثر من جهد اعتباطي يخدم تهرّب واشنطن من الاستحقاقات التي تنتظرها شمال شرقي سوريا، كالمساهمة في التنمية والتمكين الإداري والاقتصادي والضغط على تركيا لوقف عدوانها اليومي وعودة النازحين إلى بيوتهم وبذل جهد أكبر في مسائل تطويق “الإرهاب” واحتواء “داعش”.