محمد سيد رصاص
تثبت تجربة ما يقرب من ثلث قرن من الزمن على قيام الدولة الأوكرانية بأن كلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الواحد والعشرين من شباط 2022 عن أوكرانيا، “كدولة مصطنعة.. كان لينين في عام 1922هو صانعها ومهندسها المعماري”، لم يكن بعيداً عن الصواب، عندما رأينا مجتمعاً انفجرت بنيته بالتدريج إلى شظايا، ثم كانت أزمته البنيوية وقوداً أشعل أكبر أزمة عالمية بعد الحرب العالمية الثانية. دراسة التجربة الأوكرانية هنا هي محاولة مقاربة لمثال توجد أشباه له في عشرات المجتمعات بدول متفرقة، وهي عديدة في منطقة الشرق الأوسط.
هنا، إذا نظرنا من منظار قومي فإن كلام بوتين صحيح، حيث يوجد الروس في إقليم دونباس في الشرق وأغلبية روسية من حيث القومية أو اللغة في مدن خاركيف ودنيبر وبتروفسك وأوديسا وحيث هناك الغرب عند إقليم غاليسيا وعاصمته مدينة لفيف الذي ضمه ستالين للاتحاد السوفياتي عام 1939 بعد معاهدته مع هتلر حيث الأغلبية كاثوليكية والتي تشعر بارتباط مع العاصمة البولندية وارسو أكثر من ارتباطها بكييف التي هي منقسمة لغوياً بين الروسية والأوكرانية.
ولكن لينين لم يكن يفكر كما يفكر بوتين، فالقائد البلشفي كان يريد عند إنشاء الاتحاد السوفياتي دولة عابرة للقوميات تقوم على اتحاد طوعي لا تسودها القومية الروسية كما كان الحال زمن القياصرة التي سميت امبراطوريتهم “سجن الشعوب”، بل هناك مساواة بين القوميات والإثنيات في مجتمع جديد يتجه نحو بناء تجربة اشتراكية وفق أيديولوجية ماركسية. في هذا الصدد تثبت تجربة الاتحاد السوفياتي ما بعد تفككه عام 1991 (وأيضاً عبر تفككه) بأن المسألة القومية لم تحل هناك،والتجربة الأوكرانية هي مثال متفجر على ذلك.
عند الاستفتاء على قيام أوكرانيا كدولة مستقلة، وفق حدودها يومذاك كجمهورية سوفياتية في 1 كانون الأول من عام 1991، كان الجواب بنعم يصل إلى اثنين وتسعين بالمئة من الأصوات، ثم جرى اعتراف متبادل بالحدود القائمة بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي الخمسة عشر عند تفكيكه في يوم 26 كانون الأول 1991.
كانت أقل النسب في الاستفتاء بشبه جزيرة القرم وفي إقليم دونباس بالشرق ولكنها لم تنزل بقول النعم عن النصف، ووسطياً صوت روس أوكرانيا في الشرق (دونباس) والشمال الشرقي (خاركيف) والوسط (دنيبروبتروفسك) والجنوب (أوديسا) والقرم بنسبة 55%بالمئة مع قيام الجمهورية الجديدة فيما كانت النسب الأعلى عند غيرهم في الوسط والغرب.
عند قيام الجمهورية الجديدة كان هناك اتحاد ثلاثي بين مسؤولي الإدارة السوفياتية السابقة في كييف وأغلبهم من مدينتي دونيتسك ودنيبر وبتروفسك (مكان مولد ليونيد بريجنيف) وبين النخبة الأكاديمية والثقافية والتقنية في الغرب وقادة الحركة النقابية العمالية بإقليم دونباس في الشرق الأكثر تصنيعاً والغني بمناجمه من الفحم والحديد.
وقد كان هناك وعياً بالتفاوت القومي- اللغوي في أوكرانيا الجديدة وكذلك بالتفاوت بين المناطق في النمو حيث الشرق الأكثر تصنيعاً والغرب الأكثر تحضراً، وحتى عام 2004 كان التكلم بالروسية رمزاً للمكانة والتفوق في الدولة الجديدة التي ظلت مع بيلاروسيا الأكثر ارتباطاً مع الدولة الروسية الجديدة في موسكو.
ولكن ظهرت وولدت من رحم الثورة البرتقالية في تشرين الثاني 2004، والتي كانت أساساً ضد فساد وسوء إدارة النخبة الجديدة في الدولة الناشئة، نزعة قومية أوكرانية كانت بالتضاد مع تلك النخبة الحاكمة التي ظلت على ارتباط وثيق مع الكرملين ولها نوستالجيا عميقة نحو الماضي السوفياتي وعداء فكري- ثقافي- سياسي للغرب الأميركي- الأوروبي.
هنا، لم تطرح، في ثورة 2004 وبخلاف ثورة ميدان كييف عام 2014، مسألة انتماء أوكرانيا السياسي – الأمني إلى موسكو الكرملين أم إلى بروكسل حلف الأطلسي- الناتو، بل طرحت مسألة الهوية للدولة الجديدة، فيما كان الموضوع قد أهيل عليه تراب خفيف لتغطيته منذ عام 1991 عندما اعتبر كل المواطنين في الجمهورية الأوكرانية السوفياتية في يوم استفتاء 1كانون الأول 1991 مواطنون أوكرانيون في الجمهورية الجديدة بغض النظر عن القومية واللغة وبغض النظر عن الماضي عندما كانت غاليسيا جزءاً من الدولة البولندية حتى عام 1939 وعندما كانت شبه جزيرة القرم جزءاً من جمهورية روسيا السوفياتية حتى عام 1954.
وقد لوحظ إحياء القومية الأوكرانية وتفضيل اللغة الأوكرانية في زمن الرئيس فيكتور يوتشنكو 2004-2010 وقد وصلت الأمور به إلى منح وسام “بطل أوكرانيا” إلى ستيبان بانديرا 1909-1959 قائد “منظمة القوميين الأوكران OUN-B ” وجناحها العسكري: “جيش المقاتلين الأوكران UPA”، الذي تعاون مع الاحتلال النازي بفترة 1941-1944 وشارك في التصفية العرقية الممنهجة للبولنديين والروس واليهود في المناطق المحتلة، ثم تعاون بانديرا مع واشنطن ولندن بفترة الحرب الباردة حتى تم اغتياله بالسم في ميونيخ عام1959. بفترة يوتشنكو برز صعود المنظمات القومية الأوكرانية المتطرفة مثل “سفوبودا- الحرية” التي نالت في انتخابات برلمان 2012 نسبة 10،4% من الأصوات، وهي تعتبر نفسها استمراراً لبانديرا، ثم نزلت أصواتها لـ5،2% في انتخابات آذار 2014 ولـ 4،7% في انتخابات تشرين الأول 2014، والحزب الراديكالي الذي نال في انتخابات آذار 2012 نسبة 7،4% ثم نزل تحت حاجز الـ5% اللازم للتمثيل بالبرلمان، ثم منظمة “مواطنو أوكرانيا PU” التي منها انبثقت “كتيبة آزوف” العسكرية المتطرفة التي تحارب حتى الآن كرديف للقوات المسلحة الأوكرانية.
وهناك نزول في قوة اليمين القومي الأوكراني حيث لم ينل تكتله المتحد في انتخابات برلمان أيار 2019 سوى 2،1%من الأصوات، ويلاحظ تركز قوته في غاليسيا فيما نخبته الفكرية والسياسية كانت في مناطق الاختلاط بين الروس والأكران مثل مدينة خاركيف حيث الأوكران أقلية.
خلال سنوات ست، فشل حكم يوتشنكو في تقديم بديل للأوكران، لذلك اتجهوا ثانية في انتخابات 2010 الرئاسية لانتخاب فيكتور يانوكيفيتش الموالي لموسكو وهو زعيم “حزب المناطق”، وقد جلب معه لكييف نخبة إدارية جديدة من منطقة مولده في دونيتسك بإقليم دونباس. خلال أربع سنوات اتصف حكم يانوكيفيتش بالفساد والقمع وموالاة موسكو والعداء للغرب، لذلك كانت ثورة الميدان ضده في كييف من يوم 30 تشرين الثاني 2013 حتى هربه من القصر الرئاسي في 21 شباط 2014، تحوي برنامجاً رباعياً مضاداً، ضد الفساد والقمع وفك الارتباط بموسكو والاتجاه نحو عضوية الاتحاد الأوروبي والناتو.
في كييف 2014 كان المتواجدون بالميدان أغلبهم من الغرب الأوكراني ومن أوكرانيي كييف ومناطق الوسط. معظمهم شباب وغير حزبيين، مع ميول ليبرالية غربية، وقلة منهم كانوا من اليمين المتطرف القومي الأوكراني، مع غياب لروس دونباس وخاركيف ودنيبروبتروفسك وأوديسا،فيماكان الأخيرون متواجدين في الثورة البرتقالية عام 2004 ولوبنسبة أقل من الأوكران.
وعملياً، كان ميدان كييف 2014اعلاناً عن تشظي فكري- سياسي لجمهورية أوكرانيا من حيث الاتجاه شرقاً نحو موسكو أم غرباً نحو بروكسل الناتو والاتحاد الأوروبي، فيما كانت ثورة 2004 البرتقالية رحماً لولادة الهوية الأوكرانية القومية الجديدة ،وقد كان انتخاب يانوكيفيتش عام 2010 تعبيراً عن إمكانية متجددة نحو الزواج الأوكراني بين أوكرانيي وروس أوكرانيا، ولكن طريقة حكمه وتبعيته لموسكو جعلت المعارضة ضده تكون أيضاً معارضة للكرملين واتجاهاً نحو الغرب، إلا أن هذا قد جعل سقوطه إعلاناً لطلاق من قبل أغلبية اجتماعية روسية في اقليم دونباس بفرعيه في منطقتي دونيتسك ولوهانسك وفي شبه جزيرة القرم مع أوكرانيا 1991، فيما كانت المفاجأة عند روس خاركيف ودنيبروبتروفسك وأوديسا الذين كانت ميولهم الاندماجية مع الأوكرانيين مخالفة للنزعة الانفصالية في دونباس والقرم، وهو ما نجده الآن يظهر بقوة في حرب 2022، التي اندلعت نيرانها من وقود أزمة 2014، ولو أن من أشعل عود الثقاب كان شخصاً من خارج الحدود.