الهوية الوطنية.. مأساة وملهاة

يبدو أن النظام لا يكلّ ولا يملّ في فرض تصوّراته البدائية على هوية الدولة. تلك التصوّرات التي خطّها وهذر بها قبل ما يزيد عن السبعة عقود من الآن، ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي؛ ففي الوثيقة التي تقدّم بها وفد “الحكومة السورية” المشارك في الجولة السابعة من أعمال اللجنة الدستورية، لا تخطئ العين ماجاء فيها من تهويمات وتخيّلات شوفينية حول مسألة الهوية الوطنية، فتغدو هوية البلد بحسب مفردات الوثيقة طاردة للإثنيات غير العربية من ناحية، ومواظبة على اقتراف جريمة الصهر القومي بحق الهويات الإثنية من ناحية أخرى، ولئن تقدّم وفد غرفة المجتمع المدني القادم من دمشق بورقة “الهوية الوطنية”، فإن وفد النظام ساهم بدوره في ترسيم الهوية الوطنية عبر موافقته على مفرداتها ومقابلتها بورقة تعكس رؤيته المتسقة مع مضمون ورقة من تم اعتبارهم ممثلين عن المجتمع المدني القادمين من دمشق.

وطبقاً للوثيقة تظهر جلياً محاولة تحديد الهوية الوطنية بمدية بعثية حادّة، حيث أنها تعني “العروبة” وفقط العروبة، التي  “هي الأساس والأصل التاريخي والهوية الجامعة لكل أبناء المنطقة” وهي إلى ذلك “انتماء (العروبة) أوسع من أن يُحصر بعرق أو دين أو مذهب أو لغة أو مصلحة”، وفي الظاهر تبدو مسألة “الأصل التاريخي” للسوريين إيديولوجيا هشّة موجّهة لتجميع العرب، بعد أن صيّرتهم الحرب الأهلية طوائف متحاربة ومتوجّسة ومتنافرة، لكن محاولة التجميع هذه بين العلوي والسني والدرزي تبدو في المقابل طاردة للكرد والسريان الآشوريين والتركمان والأرمن. ثم لمَ لا تكون الوطنية السورية هي الأصل التاريخي المزعوم لكل الجماعات الإثنية بدل العروبة، على اعتبار أن سوريا كيان تشكّل في أعقاب الحرب العالمية الأولى؟  وعلى الرغم من أن سوريا بمقدورها أن تتخلّى عن فكرة الأصل التاريخي، لاعتبارات عدة منها ما يخص التحقيب التاريخي، ذلك أن المنطقة برمتها هي حاصل جمع حضارات وثقافات مختلفة ومتداخلة أو متعاقبة، وأخرى تخص طابع الدولة الحديثة التي لا تقيم كبير وزن لأساطير الأصل التاريخي نظراً لفوات هذه النظرية والحمولة الشوفينية التي تستبطنها.

وتبلغ الشوفينية منتهاها في العبارة التي تذهب إلى القول بأن “الشعب السوري بنسيجه الاجتماعي المتنوّع هو جزء لا يتجزأ من الأمة العربية”؛ فمقدار التناقض يكفي للقول ببطلان هذه المقولات البائدة، ذلك أن التنوّع يوفّر بالضرورة النقيض الموضوعي لفكرة الواحدية القومية والانتماء القسري للأمة العربية،ثم إن الحديث عن الشعب بأنه يعتز “بانتمائه العربي ويفخر بأمته ورسالتها الحضارية الخالدة عبر التاريخ” فوق أنه متخيّل ومفترض، فإنه كلام مرسل ومستل ومسروق من كتب الرومنسيين الألمان حيث نجد ما يقابله عند  فيخته “فالألماني وحده ينتمي إلى شعب حقاً. الألمان هم الشعب الأصلي المكلّف برسالة تجاه بقية البشر”، وحري بواحدنا استبدال كلمة ألماني بعربيّ حتى يتسنّى له معرفة كنه الرسالة التي يحملها النظام، بوصفه ممثّلاً للعرب، لبقية البشر/بقية السوريين. وإذا كان الألمان ينظرون إلى الكتابات الرومنسية كشكل من أشكال التعبير البدائي عن القومية، والرومنسي الحالم كذلك، والذي انطلقت منه لاحقاً شرور الفاشية والنازية، فإن النظام يبدو سعيداً بهذا البؤس النظريّ الذي يطرحه في جنيف.

بدورها لا تقل نظرة النظام إلى اللغة العربية باعتبارها اللغة الوحيدة والرسمية للسوريين، عن نظرته لمفهومي الشعب والأمة، فهي “اللغة الرسمية للجمهورية العربية السورية، وتكفل الدولة بمؤسساتها كافة…تعزيزها وترسيخها كأحد أسس هويتها الوطنية”، والحال أن اللغة وفق منطق النظام تغدو مؤسسة للهوية الوطنية، وهذا المفهوم البعثيّ مأخوذ بدوره من الرومنسيين الألمان أيضاً، فهيردر رأى في اللغة أنها “تحمل طابع ذهن الجماعة الوطنية وشخصيتها” والأمة لا تملك “أثمن من لغة آبائها” فيما ذهب فيخته في خطاباته إلى ذات المعنى فالخصوصية تنبع عن الثقافة الرفيعة للألمان و”فوق كل شيء لغتهم”. غير أن إبداء النظام حرصاً مبالغاً فيه لجهة تحديد اللغة الرسمية يبدو أنه موجّه للجماعات الإثنية غير العربية، فالثابت هو أن العربية هي اللغة الرسمية التي لا تزاحمها لغات أجنبية أخرى أو لغات وطنية كالكردية والسريانية، مع أن العربية بمقدورها أن تتجاور إلى جانب اللغات الوطنية الأخرى ضمن النص الدستوري الذي يحدّد لغات أهل البلاد، حتى وإن لم تعتبر لغاتهم رسمية.

لم يكتفِ النظام في رسم ملامح الهوية الوطنية والاستفاضة في الحديث عن التفاصيل، فذهب إلى حدّ تجريم “كل من يدعو إلى تكريس الهويّات دون الوطنية التي تمس بوحدة المجتمع وأمنه”، وهو نصّ واضح يشي بحظر الهويات الإثنية، فتصبح الدعوة للاعتراف بالثقافات واللغات الكردية والسريانية وسواها تكريساً للهويات دون الوطنية، وتصبح الهوية العربية هي الأسمى ومصدر لكل ثقافة، وبالتالي فإن الهوية الوحيدة للبلاد هي العربية وأي كلام خلاف ذلك يصنّف على أنه جريمة يعاقب عليها القانون.

لطالما شغلت مسألة الهوية الوطنية الأقليات الإثنية، واعتُبر تكريس عروبة البلد، في أحد وجوهه، حظراً للهويات الوطنية الأخرى وحطّاً من شأنها وتشكيكاً في وطنية القائلين بالاعتراف بها، وأما تطرّف النظام في شأن عروبة البلد يستدل منه أمران: إما أن سوريا ناقصة عروبة قياساً إلى الدول العربية الأخرى، أو أن النظام لا يجيد قول شيء مغاير لما قاله الأباء المؤسسون للنظام، رغم أن حزب البعث اندثر فعليّاً إلّا أن أفكاره الشوفينية تأبى أن تندثر، فهي المورد الوحيد للنظام فكرياً، هذا إن كان للنظام موارد فكرية أساساً.

لم تعد الدول الحديثة تقيم وزناً لهوية دولها القومية؛ فقد تجاوز الحاضر الماضي في هذا الشأن وهو ما عزز من حضور السلم الأهلي وسيادة القانون وتعويم فكرة المجتمع التعدّدي، وأفضى إلى أشكال متقدمة من الاندماج الاجتماعي للأفراد والجماعات الأهلية والإثنيات في كيان الدولة الوطنية، في الوقت الذي يعيد النظام فيه إنتاج هوية البلد مرّة كمأساة أفضت إلى اضطهاد قومي طاول الكرد والسريان، ومرة كملهاة كما هو حاصل في هذه الأثناء ويبشّر بحقبة اضطهاد لاحقة.