في مقالة سابقة لا حظنا كيف أن السياسة التركية تتقلب من فترة إلى أخرى حتى يبدو للملاحظ أن تركيا تمارس السياسة كنوع من المزاج. فمن علاقات مع سوريا وصفت بأنها استراتيجية، إلى العدو الأكثر خطورة لها، ومن صفر مشاكل مع دول الجوار إلى صفر علاقات، لتعود في الفترة الأخيرة للتقلب باتجاه ترميم بعض علاقاتها التي تضررت مع الدول الإقليمية. مع ذلك ثمة مسألتان بقيتا ثابتتين في السياسة التركية واحدة منها تتمثل بموقفها العدائي من الكرد بصورة عامة، وكرد تركيا وسوريا بصورة خاصة، والمسألة الثانية استجدت خلال الأزمة السورية وتتعلق بإنشاء منطقة عازلة بين تركيا وسوريا في الأراضي السورية، بذريعة درء خطر الكرد السوريين الذين يشتركون مع الكرد الأتراك بروابط اجتماعية وسياسية وإيديولوجية كثيرة.
لقد نفذت تركيا أول تمرين عسكري لتأكيد جديتها في إنشاء المنطقة العازلة وذلك عندما أرسلت قوات تركية كبيرة مساء الواحد والعشرين من شهر شباط لعام 2015، لنقل رفاة جد مؤسس الدولة العثمانية سليمان شاه، خشية وقوعه تحت سيطرة “داعش”.
من غير المعلوم لكثيرين أن قبر سليمان شاه جد مؤسس الإمبراطورية العثمانية كان قد دفن على ضفاف نهر الفرات في منطقة تسمى ترك مزاري في قلعة جعبر، الواقعة على الضفة الشرقية لنهر الفرات القريبة من مدينة الطبقة السورية. وبموجب اتفاقية أنقرة الموقعة بين تركيا وفرنسا في سنة 1921، في مادتها التاسعة عدت منطقة القبر (بضع مئات من الأمتار المربعة) خاضعة للسيادة التركية، وصار منذ ذلك التاريخ يرفرف العلم التركي فوقها، إضافة إلى تواجد سلة من الجنود الأتراك لحراسة القبر. غير أنه في سنة 1973، وخشية من أن تغمر مياه سد الفرات منطقة القبر، فقد اتفقت الحكومة السورية مع الحكومة التركية على نقله إلى قرية قره قوزاك التي تبعد نحو 25 كيلومتر عن الحدود التركية، وزيدت المساحة المحيطة بالقبر إلى نحو8797م2، وجهز المكان بمنشآت سياحية مختلفة لتقديم الخدمات تحسباً لقيام كثير من الأتراك والمجموعات السياحية بزيارة القبر.
من المعلوم أن تركيا تدخلت في سوريا منذ بداية تفجر الأزمة فيها، وذلك عبر تسهيل مرور عشرات الآلاف من “المجاهدين” المتطرفين القادمين من مختلف دول العالم عبر حدودها، إضافة إلى العتاد الحربي المتنوع الذي جاء بعضه من تركيا. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل صارت تركيا بمثابة القاعدة الخلفية للمجموعات الجهادية المقاتلة في سوريا، تؤمن لها كل مستلزمات الدعم اللوجستي، بما في ذلك تدريب المقاتلين، وعلاج الجرحى منهم.
وبالعودة إلى ما قبل تفجر الأزمة في سوريا لا بد أن يلاحظ المراقب حدة هذا التناقض الظاهري بين وضعية العلاقات السورية التركية في ذلك الوقت التي كانت تتسم بالقوة والشمولية حتى عدت من قبل المسؤولين في البلدين بأنها استراتيجية، وحجم التورط التركي في الأزمة السورية. لقد سعت تركيا لإنشاء مجال حيوي اقتصادي وسياسي لها في دول الجوار صوناً لوحدتها الداخلية والحؤول دون تفجرها.
فمن سوريا والعراق توسع التدخل التركي إلى ليبيا وأذربيجان وإلى العديد من الدول الإسلامية الأخرى، مستغلة وجود حوامل محلية يشتركون مع الحكومة التركية بالأيديولوجيا. في سوريا استغلت تركيا انتفاضة الشعب السورية ضد النظام الاستبدادي لتسارع إلى التدخل غير المباشر لدعم الحركات الإسلامية يحدوها الأمل بأن تشكل بديلاً عن النظام البعثي “العلماني” الحاكم في سوريا. وظل تدخلها مستمراً وفي توسع وتصاعد ليواكب توسع وانتشار الحركات الإسلامية الجهادية، وعندما غير التدخل الروسي العسكري في الأزمة السورية موازين القوى لصالح النظام السوري، وخصوصاً عندما تحول الكرد السوريين إلى قوة تسيطر على مناطق شرق الفرات بعد انتصارها على “داعش”، لم تعد تكتفي بالتدخل غير المباشر بل أرسلت قواتها لتسيطر على مناطق واسعه في الشمال الغربي من سوريا وكذلك في الريف الشمالي لمحافظة الرقة.
تعد تركيا اليوم من بين اللاعبين الأربعة الكبار في الأزمة السورية إلى جانب روسيا وأميركا وإيران، بل هي شريك إيران وروسيا بما صار يعرف بمسار استانا لتسوية الأزمة السورية. لم تعد تهتم بإسقاط النظام السوري، فهي باتت تدرك أن ذلك لم يعد مطلبا واقعيا، ولم تعد تعول كثيرا على الحوامل المحلية من عملائها من السوريين لتأمين مجال حيوي لها في سوريا، لتحولهم إلى مرتزقة تستخدمهم في ازمات أخرى وفي بلدان أخرى، بل صار جل اهتمامها متركزاً على ما تسميه الخطر الكردي المتنامي، بحسب زعمها، على أمنها القومي من الأراضي السورية. ولذلك فهي تضغط بصورة مباشرة على روسيا، وبصورة غير مباشرة على النظام عبر عملائها من السوريين لمنع منح الكرد السوريين أي حق بإدارة ذاتية، وتعيد التأكيد على مطلبها بضرورة وجود منطقة عازلة في أي حل للأزمة السورية، وهي فعلياً تفاوض كلا من روسيا وحكومة النظام على تجديد اتفاقية أضنا بتوسيع منطقة تدخلها العسكري إلى عمق خمسة وثلاثين كيلو متر في الأراض السورية بدلاً من الخمسة كيلومترات التي سمحت بها الاتفاقية.