محمد سيد رصاص
أعطى دونالد ترامب انطباعاً طيلة السنوات الأربع من ولايته رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، للأميركيين المعارضين له وللحلفاء والخصوم الخارجيين لواشنطن، بأن أميركا قد دخلت في مرحلة الضعف، وقد أتى هذا الانطباع من خلال الصفات الشخصية لترامب، ومن واقعة أن سياساته قد أنشأت انقساماً حاداً في المجتمع الأميركي وهو ما ظهر في انتخابات 2020 الرئاسية من حيث تقارب الأصوات بينه وبين جو بايدن، كما أن طريقة تعامله مع الحلفاء في حلف الأطلسي- الناتو كانت نابذة وليست جامعة وأوحت بأن واشنطن سترجع إلى عزلة القرن التاسع عشر تجاه الشؤون الأوروبية، وفي بكين وموسكو وطهران كانت هناك قراءات تقول إنه يوجد ضعف أميركي هو شبيه بالذي ظهر على لندن في مؤتمر ميونيخ عام 19380عندما تركت هتلر يلتهم تشيكوسلوفاكية وكان ذلك المؤتمر علامة على بداية غروب شمس الامبراطورية البريطانية.
هنا، على الأرجح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما غزا أوكرانيا في يوم الرابع والعشرين من شباط/ فبراير 2022 كان لديه هذا الانطباع واشتغل بوحيه، كما أن القمة التي جمعته مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في الرابع من شباط، قد أوحت بقراءة للضعف الأميركي من خلال التصعيد ضد واشنطن في البيان المشترك الذي قال بتعاون “بلا حدود” بين البلدين، وكل من يراقب مجرى الأزمة الأوكرانية يلاحظ مدى التصعيد الروسي في وتيرتها منذ عودة بوتين من الصين فيما كانت قبل ذلك اليوم بوتيرة منخفضة على مدى الشهر السابق. وهناك بالسنوات الأخيرة تصريحات للسيد علي الخامنئي تقول بأن واشنطن في حالة تراجع. ويمكن في هذا الصدد أن يكون جو بايدن قد شارك الزعيم الإيراني والرئيسين الصيني والروسي هذا الانطباع بالضعف الأميركي عندما كتب مقالاً دالاً على ذلك ببداية ترشحه للرئاسة ونشره في مجلة “فورين أفيرز” (عدد آذار- نيسان2020) وهو مقال يحوي هذا العنوان الملفت: “لماذا أميركا يجب أن تتولى القيادة من جديد: إنقاذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة بعد ترامب”.
في فترة ما بعد الرابع والعشرين من الشهر الماضي 2022، وهو منعطف مفصلي في العلاقات الدولية من حيث أن الهجوم الروسي لأوكرانيا هو أكبر تحدٍ واجهته الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة في خريف 1989، لم تظهر واشنطن ضعيفة، بل كانت قوية، وأدائها، في الحرب الروسية – الأوكرانية، يذكر بقوة أداء جون كينيدي أمام نيكيتا خروتشوف في الأزمة الكوبية عام 1962عندما أجبر الزعيم السوفياتي وتحت التهديد الأميركي بحرب نووية على سحب الصواريخ السوفياتية من كوبا، وهو ما كان سبباً في سقوطه بعد عامين في موسكو، حيث استطاع بايدن أن يجمع وراء واشنطن حلف الأطلسي واليابان، وأن يرهب الصين عن مساعدة الروس وسلوك بكين بعد 24 شباط ليس كما قبل ذلك اليوم حيث هي أكثر ابتعاداً عن موسكو، وأن يحاول إغراء الإيرانيين باتفاق نووي جديد وفق مطالب طهران، كما أن مراهنة موسكو على شقاق أميركي- أوروبي بسبب حاجة الأوروبيين وخاصة الألمان للغاز الروسي لم تنجح بل حصل العكس، حيث أوقفت برلين وعلقت ترخيص خط نورد ستريم-2 وكان على وشك الجهوزية للعمل واتجهت نحو ميزانية عسكرية ألمانية غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، كما أن باريس التي كانت تفكر منذ سنوات بمشروع جيش أوروبي قد انخرطت بحماس في أنشطة الناتو ضد الروس. من جهة أخرى، كان لافتاً قدرة واشنطن على تحديد أن مجابهة الناتو لموسكو عسكرياً لن تحصل مباشرة بل ستتم بالواسطة الأوكرانية وعلى الأرض الأوكرانية مع مساعدات عسكرية من الناتو لكييف، فيما المجابهة الاقتصادية عبر العقوبات ستكون مباشرة مع الروس وستشترك فيها بشكل منسق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانية واليابان وهي عقوبات غير مسبوقة من حيث مداها في تاريخ العلاقات الدولية، كما أن تجهيز الجيش الأوكراني بفترة 2014-2022 من قبل الغرب الأميركي- الأوروبي، ثم المساعدات العسكرية التي قدمت من الناتو للأوكرانيين بالحرب، قد جعلا الحرب طويلة ومكلفة وليست نزهة على الروس كما كان يتصور الكثيرون في بدايتها عن أنها ستستغرق أياماً قليلة. هناك مسألة إضافية نجح فيها الأميركان وهي استغلال ما حصل في يوم 24 شباط من قبل موسكو من أجل إنشاء حالة من الرهاب الغربي الأوروبي من روسيا هو أصبح عميقاً كما يظهر في المجتمعات الأوروبية وقد وصل إلى عند الأفراد العاديين ولا يقتصر على الساسة أو المشتغلين بالشأن العام وهو يمتد كذلك لأغلب التيارات السياسية. وهناك الكثير من الدلائل من واشنطن ولندن وبروكسل (مركز الاتحاد الأوروبي) على أن المجابهة مع موسكو ستكون مفتوحة ولن تنتهي حتى ولو حصل اتفاق روسي- أوكراني ينهي الحرب الحالية.
كتكثيف: هناك مؤشرات كثيرة، تمظهرت عبر الحرب الروسية- الأوكرانية، على أن القطب الواحد الأميركي للعالم قد ازداد قوة في عالم ما بعد 24 شباط 2022، وعلى أن إمكانية نشوء عالم متعدد الأقطاب قد ضعفت على الأقل في المدى المنظور. ويبدو، في هذا الصدد، أن محاولة انقلاب 24 شباط الروسية، المدعومة من الصين، ضد نظام الأحادية القطبية الأميركية للعالم كانت محاولة فاشلة.