دمشق: ساعات التقنين الطويلة للكهرباء تعيد الحمامات الشعبية إلى الواجهة مجدداً
دمشق- نورث برس
يرتاد ناصر عبود (34 عاماً) وهو اسم مستعار لأحد سكان باب سريجة جنوب شرقي دمشق، منذ أكثر من ثلاثة أشهر إلى حمام شعبي للاستحمام، جراء التقنين الطويل للكهرباء الذي يمتد لأكثر من عشرين ساعة قطع، مقابل أربع ساعات وصل.
ونهاية كل أسبوع، يقصد “عبود” الذي يعمل سائقاً لسيارة أجرة، الحمام، مقابل سبعة آلاف ليرة سورية، أي أنه يصرف حوالي الثلاثين ألفاً شهرياً.
ويجد السائق وهو والد لثلاثة أطفال ذلك المبلغ مكلفاً وخاصة أن متوسط دخله الشهري لا يتجاوز مئتي ألف ليرة سورية، “ولكن لا حل غير ذلك”.
ويضيف، “كان أجدادنا يذهبون إلى الحمامات ليقضوا وقتاً ممتعاً في الاستحمام وللقاء أصدقائهم، أما نحن فنرتادها نتيجة الظروف الصعبة التي فُرضت علينا”.
وتعد الحمامات الشعبية إحدى معالم دمشق التاريخية المميزة وقُدر عددها بأكثر من 167 حماماً منذ العصر الأموي.
لكن لم يبقَ منها اليوم سوى عشرة حمامات، فبعض أصحابها غير وظيفته أو أهمل والبعض الآخر قيد الترميم وإعادة التأهيل، فيما هدم ما تبقى.
ودفع الانقطاع الطويل للكهرباء خلال السنوات الأخيرة، بسوريين لقصد الحمامات الشعبية، بسبب عدم توفر المياه الساخنة في منازلهم، ما أدى إلى استعادتها لنشاطها.
ويصف “عبود” تجربته بـ “الممتعة”، على الرغم من التكاليف، لأنه يحظى بالصحبة الجميلة، إلى جانب الخدمة الجيدة من التدليك والتكييس وغيرها، على حد قوله.
ويضيف ساخراً، “تخيل إننا في هذا العصر وفي وسط أقدم عواصم العالم، نقوم بتسخين المياه في الأوعية من أجل استحمام أطفالنا، هذا في حال توفر الغاز”.
انعدام للخصوصية

لا يختلف حال رضوان سليمان (٤٠ عاماً)، وهو عامل دهان يسكن مشروع دمر غرب العاصمة، كثيراً عن سابقه، إذ أنه منذ أكثر من سنة، أصبح من الزبائن الدائمين للحمامات الشعبية.
وكل يوم وبعد أن ينهي “سليمان” عمله، يتوجه إلى الحمام الذي يبعد عن منزله مسافة نصف ساعة، ليستحم وينظف ثيابه من الأوساخ.
ويقول، “بدل أن أتوجه إلى منزلي وأحظى بحمام ساخن وبعض الراحة، أقوم بهذا الروتين المتعب”.
وعلى عكس سابقه، يصف “سليمان” تجربته مع الحمامات الشعبية بـ “المتعبة وغير المريحة”، لأنه لا يحظى بالخصوصية، كون شخصيته من النمط الخجول، على حد وصفه.
وفي مشروع دمر غرب العاصمة لا تصل الكهرباء سوى ساعة واحدة في الصباح وساعة في المساء وفعلياً هي مدة غير كافية لتسخين المياه، وخاصة في ظل الانخفاض الحاد لدرجات الحرارة، التي شهدتها دمشق مؤخراً.
وبنبرة لم تخلو من الكآبة يضيف العامل، “لا أحزن على نفسي بقدر حزني ع أولادي الذين يتحممون في أغلب الأحيان بالمياه الفاترة، كبروا وهم يشاركوننا المعاناة والعذاب”.
“ناهيك عن المصاريف وتعب المسافات التي نقطعها، فإننا عرضة للإصابة بأمراض جلدية وفيروس كورونا وغيرها من الأمراض، إذ نتشارك الحمام والكثير من الأغراض الشخصية مع أشخاص آخرين”.
ويتساءل “سليمان” كما جميع السوريين، “أبحث عن إجابة لسؤال طالما بقي عالقاً في أذهاننا، إلى متى هذا الحال؟.. لا نعلم”.
ومنذ عام ٢٠١١، تشهد سوريا تشهد أزمة حادة في توفير الوقود المخصص للاستخدام في محطات توليد الطاقة الكهربائية، ما أدى زيادة ساعات التقنين التي شملت معظم ساعات اليوم، في غضون السنتين الأخيرتين.
من الاندثار إلى الاستمرار
وكان أصحاب الحمامات على وشك إغلاقها أو بيعها قبل الحرب السورية بسبب قلة عدد زبائنهم والآن هم بصدد توسيعها وصيانتها، نتيجة الإقبال عليها.
ويقول عدنان الطباع (31 عاماً) وهو اسم مستعار لعامل في “حمام نور الدين الشهيد” في سوق البزورية بدمشق، إنه قبل الحرب كان يقتصر حضور زبائن الحمام على أعراس أبناء بعض الدمشقيين القدماء، الذين بقوا متمسكين بعادات أجدادهم، وبعض السياح فقط.
ولكن اليوم وفي ظل هذه الظروف، يستقبل الحمام يومياً ما لا يقل عن خمسمئة زبوناً، بينهم العامل والمعلم والمهندس والدكتور، بحسب “الطباع”.
ويعلق العامل ضاحكاً عند سؤاله عن التكلفة، “هم ينعمون بالماء الساخن والنظافة ونحن نحظى بالمال الوفير”.
ويعتبر حمام “نور الدين الشهيد”، واحداً من أقدم الحمامات الدمشقية ويتميّز عن غيره من حيث الزخرفة وطريقة بنائه والمساحة التي بني عليها، إضافة إلى موقعه المميز في وسط سوق البزورية، قرب خان أسعد باشا.
والعام الماضي ، ارتفعت تكلفة الاستحمام في الحمامات من ثلاثة آلاف ليرة سورية إلى ما بين 7 و12 ألف ليرة سورية.
ويعود السبب إلى ارتفاع المازوت وندرته، حيث تعتمد الحمامات على المازوت وأحياناً الحطب في توفير المياه الساخنة، إلى جانب ارتفاع مستلزمات الحمام من الشامبوهات والصابون والمعقمات والمناشف وغيرها، بحسب عاملين في الحمامات.
أما بالنسبة لخدمات الترفيه مثل المساج التدليك والتكييس والحمام البخاري، فتصل التكلفة في الحمام الآنف الذكر إلى اثنتي عشرة ليرة سورية.
ويمزج “الطباع” بين المزح والجد، “حمامنا رجع لم شمل الوطن والأقارب والأصدقاء والتجمعات الحلوة، حققنا ما لم يستطع الكثير من السياسيين والحكوميين تحقيقه”.