تقلبات السياسة التركية

منذر خدام

إن من يراقب سلوك ومواقف المسؤولين الأتراك تجاه القضايا المطروحة على الساحة السورية، ومنها، بل في مقدمتها القضايا المرتبطة بانتفاضة الشعب السوري في سبيل نيل حريته واستعادة كرامته، لا بد أن يندهش بعض الشيء لتقلب المزاج السياسي التركي تجاه سوريا.

من المعلوم أن الرئيس السوري بشار الأسد بدأ حكمه بنهج يختلف عن نهج والده تجاه تركيا، ففتح لها باباً عريضاً وعالياً تجاه سوريا والبلدان العربية، ليس فقط في المجال الثقافي بل في المجالين الاقتصادي والسياسي أيضاً.

وكان ثمن ذلك التخلي الرسمي عن المطالبة بلواء اسكندرون الذي ضمته تركيا إليها في عام 1939 بتواطؤ معلوم مع فرنسا، ووقع معها اتفاقيتين فيهما مس بالسيادة الوطنية: الاتفاقية الأولى تسمح لتركيا ببناء سد في الأراضي السورية، بالقرب من جسر الشغور، لري الأراضي في سهل العمق في لواء اسكندرون (سهول أنطاكية)، والثانية اتفاقية أمنية تسمح لتركيا بتعقب مقاتلي حزب العمال الكردستاني في العمق السوري حتى مسافة خمسة كيلومترات.

بالإضافة لذلك فقد تطورت العلاقات الاقتصادية بين البلدين كثيراً حتى وصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى نحو ثلاثة مليارات دولار، عداك عن فتح الحدود بالاتجاهين أمام مواطني البلدين. ولا يقل أهمية عن ذلك مساهمة سوريا في التعريف بالثقافة التركية من خلال دبلجة مسلسلاتها، ومن خلال تنشيط حركة السياحة بين البلدين. وفي المجال السياسي صارت تركيا وسيطاً بين سوريا وإسرائيل، ورعت مفاوضات غير مباشرة بينهما. وقيل في حينها أيضاً إن العلاقات الشخصية بين الرئيسين بشار الأسد ورجب طيب أردوغان صارت من القوة والاستقرار بحيث صارت توصف بأنها علاقات استراتيجية.

السؤال هو لماذا تضحي تركيا بكل هذه المكاسب دفعة واحدة، لقاء وقوفها إلى جانب الشعب السوري الثائر على نظامه؟ بطبيعة الحال من السذاجة القول، جواباً عن السؤال السابق، إن تركيا الديمقراطية تنطلق في دعمها لنضال الشعب السوري من “مبادئ” نصرة قضايا الشعوب العادلة، إذ من المعلوم في العلاقات الدولية أن المصالح هي الأساس الذي تبنى عليه. ومن السذاجة أيضاً القول، جواباً عن السؤال ذاته، بأن تركيا تبحث عن فضاء حيوي ديمقراطي لمصالحها يسمح لها بالضغط على دول الاتحاد الأوروبي من أجل قبول عضويتها فيه، أو بديلاً عنه.

ومع أنه قد يكون في القولين السابقين بعض الصحة في الجواب عن السؤال المطروح، غير أن الجواب الأقرب للصحة ينبغي البحث عنه في مجال آخر، هو مجال تأثير ما يجري في سوريا وفي دول الإقليم على الداخل التركي، واحتمال انتقال الصراعات المحتملة في سوريا إليها نظراً للعلاقات السكانية المتداخلة والمعقدة بين البلدين.

لقد نجحت سياسة حزب العدالة والتنمية في تحويل تركيا إلى قوة اقتصادية وسياسية إقليمية يحسب لها حساب، بعد أن كانت تابعة في كل شيء تقريباً للسياسات الأميركية والأوروبية. وما كان بإمكان تركيا أن تنجح في كل ذلك لولا تغيير وجهتها شرقاً باتجاه دول الجوار الإقليمي وفي مقدمتها سوريا. غير أن استمرار وتعزيز هذه النجاحات يتطلب قبل كل شيء استقرار دول الجوار، والهيمنة عليها، وخصوصاً تلك التي تتشارك معها المشكلات الناجمة عن التداخل السكاني.

من المعلوم أن تركيا تعاني من مشكلة مزمنة مع الكرد الأتراك الذين يناضلون في سبيل حقوقهم المشروعة. في عهد حافظ الأسد كانت سوريا قاعدة رئيسة لحزب العمال الكردستاني وكان زعيم الحزب يقيم في سوريا برعاية شبه رسمية. غير أن تركيا ومن خلال ممارسة ضغوط عالية على النظام السوري نجحت في جعل زعيم الحزب عبد الله أوجلان يغادر سوريا، الأمر الذي أدى لاحقاً إلى اعتقاله ومحاكمته وسجنه في تركيا. إضافة إلى ذلك عادت الحدود السورية لتغلق في وجه مقاتلي هذا الحزب في عهد بشار الأسد، وشنت السلطات السورية حملة اعتقالات واسعة على كوادره ومقاتليه، وسلمت البعض منهم إلى تركيا.

لقد استثمرت تركيا سياسياً ودبلوماسياً ولوجستياً في سوريا لدعم الإسلام السياسي الجهادي على أمل أن تجد حلاً دائماً واستراتيجياً لمسألة أمنها القومي بخلق ظروف مناسبة لها للقضاء على الطموح الكردي بكيان قومي، أو دور سياسي، غير أن مجريات الصراع في سوريا وتحولاته حولت الكرد إلى قوة عسكرية وسياسية لا يمكن تجاهلها ليس فقط في سوريا بل وفي تركيا أيضاً. من جهة أخرى يشكل العلويون الترك كتلة سكانية كبيرة في تركيا وهي بمجملها متعاطفة مع النظام السوري، وتهدد بأنها لن تسكت في حال تعرضت الأقلية العلوية في سوريا لصراع طائفي.

إن تدخل النظام التركي في دول الجوار الإقليمي على الضد من قاعدة “صفر مشاكل” كان بغرض رئيس هو صرف انتباه الأتراك عن مشكلات بلادهم الداخلية، خلف لها مشاكل مع كل دول الإقليم، بل ومع الاتحاد الأوروبي وأميركا، مما انعكس سلباً على أمنها الداخلي. اليوم صارت القضية الكردية عموماً في الواجهة بقوة أكبر، والنجاحات الاقتصادية التي حققتها تركيا بدأت تتراجع وتدخل في طور الأزمة، وبالنتيجة أخذت شعبية النظام التركي بقيادة أردوغان تتراجع مما يهدد بخسارته الانتخابات القادمة. ومن جديد بدأ المزاج السياسي التركي ينقلب باتجاه تصحيح سياسات تركيا مع دول الجوار الاقليمي وخصوصا دول الخليج العربي ومصر وإسرائيل وحتى تجاه النظام السوري الذي تتشارك معه الموقف ذاته تقريباً من القضية الكردية.