هل يعود الشرق الأوسط إلى أهميته العالمية؟

برزت نزعة انسحابية أميركية من شؤون منطقة الشرق الأوسط مع الانسحاب الأميركي العسكري من العراق الذي اكتمل في اليوم الأخير من عام 2011. تزامن ذلك مع إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما في 17تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 بخطابه أمام البرلمان الأسترالي عن نزعة واشنطن نحو التركيز على الشرق الأقصى الذي انتقل له الثقل الاقتصادي العالمي، وتحولت فيه الصين في عام 2010 إلى الرقم الاقتصادي الثاني العالمي متخطية اليابان.

وقد كان من ظواهر هذه الانسحابية الأميركية الطريقة غير التدخلية التي اتبعتها واشنطن تجاه التطورات الداخلية التي جرت في بلدان “الربيع العربي” عام 2011 مع ترك الأمور تأخذ مجراها ولو أدى هذا إلى سقوط العديد من حلفائها السابقين كان لهم لعقود خدمات وتعاونات وثيقة مع الأميركان مثل الرؤساء المصري والتونسي واليمني، وحتى عندما اتجهت الأمور نحو التدخل العسكري في ليبيا فإن أوباما قد اختار وفق تعبيره “القيادة من الخلف” تاركاً الفرنسيين في الواجهة، وهو ما فعله أيضاً في الأزمة السورية عبر الأتراك حتى عام2013، ثم الروس الذين كان تدخلهم العسكري عام 2015 في سوريا برضاً أميركي.

أيضاً كان من ترجمات هذه الانسحابية الأميركية عقد الاتفاق النووي مع إيران عام 2015 (والذي يسعى بايدن بقوة نحو إحيائه الآن) ثم الانسحاب الأميركي العسكري من أفغانستان في الصيف الماضي وترك أفغانستان لحركة طالبان بعد اتفاق 2020 معها.

قاد ذلك إلى فقدان أهمية الشرق الأوسط العالمية التي كانت له منذ أربعينيات القرن العشرين عندما تحول إلى المصدر الرئيسي للطاقة النفطية العالمية بالنسبة للغرب الأوروبي- الأميركي، وأصبح منذ الخمسينيات ساحة رئيسية للمجابهة الأميركية – السوفياتية في الحرب الباردة. كان من أسباب فقدان هذه الأهمية انتهاء الحرب الباردة في خريف عام 1989 التي قادت إلى تناقص وزن إسرائيل عند واشنطن، واكتشاف النفط الصخري في الولايات المتحدة، وثالثاً تحول روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي إلى مصدر رئيسي للاتحاد الأوروبي في الغاز (أربعون بالمئة) والنفط (خمس وعشرون بالمئة).

على وقع ذلك الفقدان لأهمية المنطقة اتجهت دول حليفة لواشنطن، مثل السعودية، نحو فتح صفحة علاقات جديدة مع روسيا والصين منذ عام 2015، واتجهت دول أخرى، مثل الإمارات والبحرين، نحو التطبيع مع إسرائيل في عام 2020 لحماية نفسها من عملية تركها وحيدة من قبل واشنطن أمام إيران.

الآن، وفي عالم ما بعد 24 شباط 2022 الذي شهد بدء الغزو الروسي لأوكرانية، هناك على ما يبدو، صورة جديدة ستتشكل، تعيد للشرق الأوسط أهميته العالمية مع إعلان دول الاتحاد الأوروبي (ومعها بريطانية) أنها ستنهي الاعتماد على النفط والغاز الروسيين في عام 2027. لا يوجد بديل، بالمعنى الحقيقي للكلمة، للغاز والنفط الروسيين نحو أوروبا سوى في الشرق الأوسط الذي يمتد وفق المصطلح الجغرافي الحديث (بخلاف مصطلح بريطاني قديم هو الشرق الأدنى) من المغرب إلى باكستان.

كانت أول طلقة ضد روسيا بهذا الصدد قد وجهها الرئيس التركي عندما أعلن أثناء زيارة الرئيس الإسرائيلي لأنقرة في 9 آذار 2022، أن أنبوب الغاز الإسرائيلي تحت البحر الذي وقع عقده عام 2020 ليمر عبر قبرص واليونان نحو أوروبا سيتجه بدلاً من ذلك  تحت البحر نحو تركيا إلى ميناء جيهان ومن هناك إلى أوروبا.

ليس بعيداً عن الاحتمال أن يكون هذا الخط ممراً أيضاً للغاز المصري، الذي تدل اكتشافات أخيرة في البحر على أنه سيجعل مصر من المنتجين العشرة الأوائل للغاز في العالم، نحو أوروبا، وليس مستبعداً أن يكون كذلك للغاز القطري (ثالث احتياطي في العالم بعد روسيا وإيران) عبر السعودية والأردن، وهنا يجب استذكار مشروع قطري يقال إنه عرض على الرئيس السوري عام 2009 لنقل الغاز القطري عبر سوريا إلى تركيا ومنها إلى أوروبا ورفضه الرئيس السوري لأنه يضر بالمصالح الروسية، وأيضاً مشاريع لأنابيب نفط وغاز إيرانية وعراقية للساحل السوري (وربما منه عبر تحت البحر نحو أوروبا) وكذلك مشروع أنبوب غاز إيراني عبر تركيا إلى أوروبا تم إيقافه في عام 2010 من شركات أوروبية في ذروة المجابهة الأميركية- الإيرانية، وليس بعيداً في هذا الصدد أن يكون التواجد العسكري الروسي في سوريا أحد أسبابه الرئيسية عند موسكو هو منع حصول كل ذلك. وفي هذا الصدد هناك شيء ملفت أن يكون شهر شباط 2022 قد شهد الإسراع الأميركي في التنازلات لإيران في عملية إحياء الاتفاق النووي حيث تخلت واشنطن عن شرط ربط موضوعي الصواريخ البالستية الإيرانية والسياسة الإقليمية الإيرانية بالاتفاق النووي فيما كانت متمسكة بهذين الموضوعين منذ بدء المفاوضات بربيع العام الماضي في فيينا، ثم تخلت عن ذلك بفترة التوتر الروسي – الأميركي بالموضوع الأوكراني، وعلى الأرجح أن واشنطن هنا تفكر بالنفط والغاز الإيرانيين كبديل.

هنا، ستكون خطوة أنقرة- تل أبيب ضربة كبرى لموسكو، وليس مستبعداً أن تكون واشنطن في صلب الموضوع مادامت شركات أميركية قد انسحبت قبل أشهر من المشروع الإسرائيلي- القبرصي- اليوناني، لمد أنابيب الغاز تحت البحر المسمى “ايست ميد”. ومن المحتمل أن تكون الطلقة الثانية أنبوب غاز قطري عبر السعودية والأردن إلى إسرائيل يربط بخط حيفا- جيهان تحت البحر ومن هناك إلى أوروبا، ويجب تذكر مدى قوة العلاقات القطرية – الإسرائيلية ولو كانت في أغلبها من تحت الطاولة. وأيضاً يمكن أن يكون الإسراع في حل الأزمة الليبية أحد المخارج للغرب الأوروبي – الأميركي حيث يوجد النفط والغاز وهو قريب من أوروبا حيث يمكن مد أنابيب تحت البحر.

في كل الأحوال، هناك مشهد دولي جديد افتتح في يوم 24 شباط 2022 سيفتح باباً لصراع الغرب الأميركي- الأوروبي مع موسكو مادام الغزو الروسي لأوكرانية قد دشن بداية لمرحلة في الصراع بينهما شبيهة بالصراع الذي بدأه الرئيس الأميركي هاري ترومان في 12 آذار 1947 وأعلن من خلاله “مبدأ ترومان” لمساعدة البلدان المختلفة ضد “الخطر الشيوعي” وهو ما كان إعلاناً عن بدء الحرب الباردة التي استمرت لاثنتين وأربعين سنة. سيكون تصفير اعتماد الأوروبيين على الغاز والنفط الروسيين أحد شروط وأرضيات هذا الصراع ضد روسيا، ولن يكون هناك بديل حقيقي سوى في غاز ونفط الشرق الأوسط، كما أن الصراع الأميركي- الأوروبي مع موسكو سيحول العالم بأكمله ميداناً له، وسيكون الشرق الأوسط، بحكم كونه بديلاً محتملاً للنفط والغاز الروسيين وبحكم وجود روسيا العسكري والسياسي والاقتصادي في بلدان عديدة من المنطقة، ميداناً رئيسياً لهذا الصراع.