واشنطن أم موسكو .. هل على الإدارة الذاتية تحديد اصطفافها؟

شورش درويش

يُثار التساؤل مرات عدّة حول جدوى العلاقة القائمة بين قوات سوريا الديمقراطية “قسد” والولايات المتحدة، وعلى وجه الدقّة مع البنتاغون الذي أظهر إلى اللحظة بأن كعبه أعلى في رسم السياسة الأميركية الخاصة بسوريا قياساً إلى وزارة الخارجية، فالأخيرة تملك ميلاً عظيماً لاستمالة الأتراك وإن كان ذلك مبنيّاً على براغماتية تصل إلى حدود الابتذال في بعض الحالات، فيما يبدي البنتاغون ميلاً إلى مزج السياسة الخاصة بسوريا بمفهومي الندّية إزاء موسكو وإيران وعدم الانسحاب النهائيّ من شمال شرقي سوريا وفق ما أراده الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في وقت لاحق، حتى وإن أفضى ميل البنتاغون هذا إلى إثارة غضب الأتراك.

من المرجّح أن تصعد علاقة واشنطن بشمال شرقي سوريا إلى مستوى أكثر تقدّماً، وهذا الافتراض مبنيّ في جزئه الأهم على ما يدور في أوكرانيا، وربّما زاد من حضور هذا الترجيح رغبة واشنطن في عدم إراحة موسكو في سوريا وتحجيم دورها حيثما كانت، وثمة إلى ذلك قراءات يصحّ الاستئناس بها في هذا السياق، إذ تذهب سيمون ليدين، نائبة مساعد وزير الدفاع الأميركي لشؤون الشرق الأوسط لـدى إدارة دونالد ترامب، إلى أن العلاقة مع قسد تحظى بدعم كبير لدى البنتاغون، وأن هناك رغبة لأن تصبح العلاقة مع كرد سوريا شبيهة بتلك القائمة مع كرد العراق، وأن “هناك الكثير من الأصوات القوية والمؤثرة في البنتاغون تدافع عن هذه العلاقة”.

لكن تطوير العلاقة ودفعها نحو مستويات أكثر وضوحاً يتطلّب تطوير الآليات التي يبدو أنّها تقتصر على الجانب العسكريّ وحسب، في حين أنها لا تشمل مجالات التنمية والتمثيل الدبلوماسي والاعتراف بالكيانية القائمة، فالمنطقة قُطّعت أوصالها باحتلال منطقتي رأس العين (سرى كانيه) وتل أبيض، وتلفظها أنظمة المنطقة برمّتها  بل وتعاديها بأتم معنى الكلمة، فيما علاقتها بكردستان العراق مضطربة، ويضاف إلى ذلك استبعاد الإدارة الذاتية وفريقها السياسي من جلسات جنيف واللجنة الدستورية. لكن كل هذه الظروف المحيطة لا تبدو معطّلة للإبقاء على تجربة الحكم الذاتي القائمة، وإن مثّلت خطراً مستداماً، ذلك أن ترشيد موارد المنطقة وتطويرها وتنظيم اقتصادها والدفع باتجاه إيجاد حوكمة جديدة يمثّل ضامن حماية التجربة داخلياً، وأما ما سيضمن استدامتها هو إصرار واشنطن على القول بأن المنطقة جزء من الحل لا من المشكلة، ولا يمكن لأي حل أن يجد طريقه للنور باستبعاد قوى المنطقة وتكويناتها الإثنية وتشكيلها العسكري والأمنيّ.

في إزاء ذلك، تتعامل روسيا مع المنطقة وفق قراءة متعالية رغم اللقاءات والإشارات التي بدت إيجابية، فهي وإن لم تكن تعادي الوجود الكرديّ إلّا أنها لم تستقطب القوى المحلّية ولم تمارس دورها في إقناع النظام باستيعاب مطالبات الكرد، بل أخضعت المنطقة، والكرد خصيصاً، لمنطق وحيد مفاده: إما القبول بشروط النظام العدميّة أو أنها ستضطر إلى المضي رفقة تركيا في مشوار التضييق على الكرد عبر إفساح المجال للمدفعية والمسيّرات التركية وباستخدام الفصائل الموالية لأنقرة لضرب المنطقة وتهديد أمنها. هذا السلوك الذي يبني رؤيته لسوريا خاضعة للنظام ونظام خاضع لروسيا هو في جوهره ما أدخل الكرد ومنطقة شمال شرقي سوريا في مفاضلة متواصلة بين واشنطن وموسكو، وإذا كان لا بد من التذكير بالوجه الشعبي لهذه المفاضلة فبحسب المراقب أن يقارن بين مشهدي رشق سكان المنطقة عربات الدوريات الروسية التركية الحدودية المشتركة بالحجارة، وبين الاحتفاء بالجنود الأميركان.

لكن رغم ذلك تؤثر جميع القوى الفاعلة وضع كامل بيضها في سلتي الروس أو الأميركان، وثمة إلى ذلك رغبة في النأي بالنفس عن الاستقطاب الذي غدا عالمياً، كما أن المنطقة على هشاشتها لا يمكن لها أن تبدّل في معادلات الصراع الكثير، سوى ذلك البعد المحلّي المتمثّل بالتنافس في السيطرة على شمال شرقي سوريا، في المقابل يشترط العمل السياسي بما هو في أحد وجوهه طلب للضمانات والبحث عن تحالفات مستقرّة، فإن الظرف يتطلّب أن تتحرّك الإدارة الذاتية جهد المستطاع لتثبيت أقدامها.

الغالب على الظن هو أن تمضي واشنطن نحو سياسات أكثر راديكالية في الملف السوري، من ذلك مشاريع إعفاء بعض المناطق الخارجة عن سيطرة النظام من العقوبات الاقتصادية، وإفشال مساعي دول عربية راغبة في إعادة تعويم النظام وبالتالي الإبقاء على عزلته، والسعي للتقريب بين مناطق شرق الفرات وغربه في المستوى الاقتصادي، وهذه السياسات على حدّتها قد تفرض نوعاً حاداً من التمايز في المستويات المعيشية والخدمية بين مناطق النظام وتلك الخارجة عن سيطرته خاصة وأن أحوال روسيا الاقتصادية ستجنّبها ضخ المزيد من المساعدات للنظام فيما تحُول العقوبات الأميركية من أن تساعده دول عربية.

وفي المحصلة، يمكن تعريف علاقة الإدارة الذاتية بالولايات المتحدة بأنها جيّدة، وبروسيا بأنها ليست سيّئة، لكن هذا التعريف الأوّلي قد يصبح قديماً باعتباره متوقّف  على ما ستطلبه الإدارة الذاتية لاحقاً  وما ستقدّمه إحدى هاتين القوتين من “عروض”. هذه المفاضلة مربكة للإدارة الذاتية ولكرد سوريا كذلك، كيف والعديد من الدول ذات الحضور الوازن تتلكأ وتعيد حساباتها مراراً قبل أن تصطف خلف أحد الفريقين، وقد لا تصطف.