غليون في حوار لـ"نورث برس": لا بديل عن وحدة قوى التغيير الديمقراطي في سوريا
واشنطن – هديل عويس
قال الأكاديمي السوري والرئيس السابق للمجلس الوطني السوري المعارض، برهان غليون، إن الحل السوري لا يزال في وحدة قوى التغيير الديمقراطي، فيما وراء حدود الطوائف والقوميات، وإنه مع سوريا ديمقراطية تعددية مستقلة وحرة، يحقق فيها جميع السوريين ذاتهم.
ورأى غليون، في حوار لـ"نورث برس"، أن كلاً من القوى السياسية للمعارضة السورية والأحزاب الكردية، أخطأت في تعاملها مع قضية حقوق الكرد ومسألة الأكثرية والأقليات، متوقعاً بوادر معارضة شابة "أكثر نضجاً وكفاحية".
وعن "الثورة السورية" وما يصفه البعض بارتهان الأطراف السياسية للخارج، قال غليون إن هذا الارتهان ليس له أي أساس موضوعي وثابت، ولكنه حصل نتيجة "الضياع الذي قادت إليه سياسات النظام الوحشية، وتخبط المجتمع الدولي أمامها وترك الأمور تسير نحو الكارثة، خدمة لأغراض استراتيجية لعدد لا يستهان به من الدول الإقليمية والعالمية".
لكنه رأى أن أوهام الاستناد إلى الدول الاجنبية لخلق وقائع جديدة على الأرض، ستزول بسرعة، بعد أن تظهر بوادر الانتقال السياسي، واطمئنان الجميع في سوريا ديمقراطية مدينة وتعددية على مساواتهم وضمان حقوقهم، وإدراكهم بأنه لا يوجد حل سياسي ممكن في سوريا من خارج وحدة الأراضي والدولة السوريتين. وأن "جميع الحلول الأخرى لن تكون سوى خيار تمديد القتال والحرب، بوسائل مختلفة، نظامية أو غير نظامية".
وأضاف أن المعارضة التقليدية، من أحزاب ومنظمات وتجمعات، فشلت في اللحاق بالثورة والتفاعل معها، وشكلت عائقاً أمام تنظيمها وتقدمها، بدل أن تنجح في تشكيل قيادة تاريخية للثورة. "المعارضة ماتت بالتأكيد. ولا أحد يرى اليوم أي وجه من وجوهها فما بالك بإنجازاتها، لكن معارضة الشعب السوري بمختلف فئاته وتياراته لنظام العبودية والقهر توسعت واشتدت لتشمل الشعب كله، وحتى لو أن معظم قطاعات الرأي العام السوري تلوذ اليوم بالصمت، أو لا تملك الفرصة للتعبير عن نفسها بسبب الظروف القاسية التي فرضها عليها الدمار الشامل واختطاف القرار من قبل الدول الاجنبية وانعدام القيادة الوطنية الملهمة. إنما هذه فترة ضياع استثنائية نجمت عن قوة الصدمة، وهول الكارثة الإنسانية والوطنية، والفراغ الذي خلفه موت المعارضة القديمة كما ذكرت".
وتوقع المعارض السوري أن الوقت لن يتأخر كثيراً قبل أن تظهر "بوادر معارضة شابة جديدة أكثر نضجاً وكفاحية".
وقال غليون، أيضاً، إن الكرد كانوا شركاء في بناء سوريا الحديثة مع العرب وغيرهم من الأقوام، مثلما كانوا جميعاً ضحية السياسات الديكتاتورية والفاشية التي سادت فيها، ومسؤوليتهم في الدفاع عنها وإعادتها إلى طريق الحياة الدستورية والديمقراطية لا تختلف عن مسؤولية العرب والتركمان وغيرهم، تماماً كما أن مصلحتهم في التواصل مع شركائهم في الوطنية ومد جسور التفاهم والتعاون والحوار معهم لا تقل عن مسؤولية هؤلاء في واجب الحوار والتواصل معهم. "هي بلدهم، ولا أحد يطلب إجازة ترخيص من أجل دفاعه عن وطنه وحماية حقوقه، أو يربط دفاعه عنه بموقف الآخرين وتضحياتهم في سبيله. فبمقدار ما نضحي من أجله يكون رصيدنا وموقعنا وأثرنا فيه. ولن ينسى السوريون جميعاً دور الشباب الكرد وقتالهم البطولي في معركة القضاء على داعش واجتثاث جذور الإرهاب من شرق سوريا في السنوات الماضية".
أما بخصوص واجب السوريين عموماً تجاه حقوق الكرد، أكد الأكاديمي السوري أن سوريا للكرد كما هي للعرب، وواجب الكرد أن يدافعوا عن حريتها واستقلالها وحقوق جميع السوريين القاطنين فيها تماماً، كما أن من واجب جميع السوريين الآخرين الدفاع عن حقوق الكرد السوريين والقوميات والأديان الأخرى. من دون ذلك لا توجد دولة ولا وطن ولا وطنية.
لكن غليون انتقد الأحزاب الكردية التي "بدت بعد الثورة، كما لو أنها تريد مقابلاً لانتمائها لوطنها والمشاركة في معركة تحريره من الطغيان والاحتلال. وهذا ما أضر كثيراً بعلاقاتها مع أطراف المعارضة الأخرى، كما أضر بالعلاقات الكردية العربية في سوريا. لكن هذا لم ولا ينبغي أن يغير من واجب السوريين جميعاً في ضمان الحقوق الفردية والجماعية للكرد، ولجميع القوميات الأخرى، بصرف النظر عن حجم هذه القوميات وعددها، كجزء لا يتجزأ من شروط بناء سوريا الديمقراطية الجديدة، وإنهاء فذلكة الأقلية والاكثرية إلى الأبد في خطابنا السياسي".
فبحسب غليون، لا توجد أقلية وأكثرية في الوطن الحر الذي يتساوى فيه الجميع أمام القانون ولا تحكمه الإرادات الشخصية والعصبيات القبلية والطائفية والإثنية، وإنما مواطنة واحدة ومتساوية. "آمل أن يكون سوء التفاهم الذي شهدناه في السنوات القليلة الماضية المصبوغة بالدم قد بدأ ينجلي، وأن تتم مناقشة الحقوق الجماعية للتنويعات القومية والثقافية والدينية في المستقبل بحرية وأريحية حتى نخرج منها، ونعد أنفسنا لمرحلة البناء".
يعتقد غليون أن النظام السوري جعل من وجود أكثرية قومية أو دينية في سوريا عقدة نفسية أو سياسية لإثارة النزاعات الداخلية ووضع الأقليات في مواجهة الأكثرية والعكس، حتى يستطيع التغطية على الاغتصاب الدائم للسلطة ويستخدم الدولة أداة لقمع الشعب بكل أطيافه.
فبرأي الأكاديمي السوري، لا توجد دولة يمكن أن تستقر دون وجود أكثرية، إنما المهم أن لا يترتب على هذه الأكثرية العددية امتيازات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تسيء إلى المواطنة المتساوية، بل يجب أن تحترم الجماعة الأكثرية هوية وحقوق الجماعات الأخرى الأقل عدداً ولا تنتقص من هويتها وحقوقها.
"مع العلم أيضاً أن الأكثرية ظاهرة تاريخية وليست واقعاً أبدياً، أي أنها منذورة للتغير، ولو عبر حقب طويلة من التاريخ، كما يبين ذلك بشكل واضح تعاقب الحضارات على هذه المنطقة المفتوحة على كل التأثيرات الخارجية، ومعها تبدل اللغات والثقافات والأديان أيضاً. وبالمثل لا ينبغي أن تعتقد الجماعات الأقل عدداً أن مصلحتها أو حقوقها أو احترامها لذاتها وهويتها يستدعي الانتقاص من حقوق الأكثرية والانتقاص من مصالحها والتشهير بهويتها وثقافتها وتقاليدها. ولم يجلب مشروع تحطيم الأكثرية الذي سعى النظام إلى تطبيقه سوى الخراب على الدولة والمجتمع والعمران".
من جانب آخر، يقول غليون إن الاعتراف والاحترام المتبادل للهويات الثقافية لا يلغي الصراع السياسي والاجتماعي والفكري بين الفئات والطبقات والنخب التي تتباين مصالحها وتوجهاتها وخياراتها، في إدارة الدولة وتسييرها.
"بل لو تأملنا بنية المجتمعات لوجدناها مكونة جميعاً من خليط من الجماعات والهجرات والتحولات التاريخية، وفيما وراء ذلك تكاد تكون مجموعة أقليات إما قومية او دينية أو طبقية أو جهوية أو مهنية أو عقائدية، تعكس الاختلافات المتعددة في نمط الحياة والمصالح والتطلعات وتتقاطع فيما بينها على مستويات متعددة. ولا تستقر الحياة الاجتماعية ولا يعم الأمن والسلام والازدهار لدى المجتمعات إلا عندما تتوصل إلى نمط من الوعي والسلوك الذي يضمن التوازن بين مصالح الجميع ويساعد على إصلاح الاختلالات التي لا بد أن تحصل في مجتمعات هي هيئات حية ومتحولة باستمرار".
ولا يتفق الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري المعارض، برهان غليون، مع استخدام مصطلحات "أقليات وأكثريات"، لأنها توحي كما لو كانت الأقليات "ضيوفاً" في البلاد ينبغي على الأكثرية مراعاتهم والعناية بهم و"شوفة خاطرهم".
"هذه مصطلحات دخيلة على ثقافتنا التاريخية التي لم تعرف التمييز على أساس الكثرة والقلة. وكانت تطلق كلمة ملة على جميع الجماعات الدينية، الصغيرة والكبيرة، وكلمة قوم على جميع الشعوب والإثنيات، وجميعها متساوية بعضها البعض، بصرف النظر عن العدد والموقع السياسي".
فهذه الملل والأقوام هي جزء من النسيج التاريخي لمجتمعات المنطقة جميعاً، كما يوضح غليون، وأبناؤها عناصر أساسية مكونة لهذه المجتمعات، ومنها سوريا، ومصدر ثرائها وغناها الثقافي والإنساني.
أما بخصوص سكان مناطق الجزيرة في سوريا، أوضح أنهم كانوا جميعاً، كرداً وعرباً و آشوريين وسريان وأرمن، مهملين ومهمشين، لأن سوريا لم تحظ، منذ نصف قرن بشكل خاص، بحكم وطني يضع في مقدمة اهتمامه مصالح الشعب وتحسين شروط معيشته، وإنما كان همّ حكوماتها ونظامها السياسي، الأول والأخير، إخضاع شعبها وقمعه ، أقلياته وأكثريته، وتحريض بعضه على بعض، وتغذية مشاعر الكراهية بين قومياته وطوائفه، من أجل تسهيل نهبه وسلبه وحرمانه من حقوقه وحرياته الأساسية، وتحويل سوريا إلى مملكة أو بالأحرى مزرعة عائلية.
"لقد كان الكرد والتركمان والأشوريون والسريان وغيرهم من الملل والأقوام المتأصلة في منطقتنا شركاء في بناء الدولة السورية الحديثة منذ نشأتها في العشرينيات، وفاعلون في تقرير سياساتها أيضاً. وربما لا يقل عدد القادة السياسيين والعسكريين الذين تقلدوا مناصب عليا في الدولة السورية منذ نشوئها، في الجيش والحكومات المتعاقبة، من الأصول الكردية، عن عدد القادة من أرومة الأكثرية العربية أو السنية، فما بالك من "الأقليات" عموماً.
وفي النهاية، يرى غليون أن السوريين قبل أن يكونوا أقواماً وإثنيات، ينبغي أن لا ينسوا أنهم بشر، وهذه هويتهم الأساسية والجوهرية الحقيقية، فالإنسانية هي أكثر ما يساوي بينهم، فيما وراء الجنس والمذهب والعقيدة، وهي تشكل الضمانة الرئيسية في هذه الطبيعة الكونية المليئة بالأنواع والإشكالات والمخاطر.
"بمقدار ما نعي هذه الحقيقة البسيطة ونستثمر فيها، نكتشف قرابتنا الوجودية ونتقدم في بناء المجتمعات التي توفر للفرد السعادة والحرية والاحترام للذات والنفس البشرية. دعونا إذن نحافظ عليها ولا نفقدها."