أزمة أوكرانيا.. امتحان جديد للقطبية الروسية (2)

لقد تعرضت روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفياتي لمزيد من التهميش في عهد بوريس يلتسين، وركزت السياسات الغربية عموماً في حينه على دفع روسيا لتبقى متخلفة تلعب دور الحديقة الخلفية لأوروبا، ومصدراً للمواد الخام، وخصوصاً النفط والغاز. لقد تجاهلت هذه السياسات، وخصوصاً الأميركية منها قوة الوطنية الروسية الكامنة، فتعاملت مع روسيا ليس بصفتها دولة عظمى بل دولة من العالم الثالث، واستفزتها في أكثر من مكان، وخصوصاً في تلك المناطق التي كانت حتى حين تدور في الفلك الروسي، كما هو الحال بالنسبة لجمهوريات آسيا الوسطى السوفياتية السابقة، وفي البلقان وأخيراً في جورجيا وفي ليبيا. لطالما حذر الرئيس الفرنسي ميتران الولايات المتحدة الأميركية من استفزاز “الدب الروسي” وإهانته وتجاهل دوره في السياسات الدولية. لذلك ما إن استلم بوتين زمام السلطة في روسيا وهو الجنرال السابق في المخابرات الروسية، والمفعم بالوطنية، حتى بادر إلى الرد، وإعادة الاعتبار إلى روسيا بصفتها دولة عظمى لا يمكن لأحد تجاهلها. ومما ساعده في نجاح سياساته التفاف طاقم من الوطنيين الروس حوله، إضافة إلى حسن استغلاله للأزمة المالية الخانقة التي تفجرت في أميركا وفي دول المنظومة الأوروبية عموماً، وجعلتها تنشغل بأمورها الداخلية أكثر.

لقد ركز بوتين جلّ اهتمامه على تمتين الوضع الداخلي في روسيا، في إطار قواعد الديمقراطية الروسية، متجاهلاً حقوق مواطنيه عليه بمزيد من الانفتاح والحرية، ومن ثم ركز على إنعاش الاقتصاد، وتجنيب بلده آثار الأزمة المالية العالمية التي عصفت بالدول الغربية، وقد حقق نجاحات ملحوظة على هذا الصعيد. لقد أخذ الاقتصاد الروسي في عهده ينمو بوتائر عالية قاربت السبعة في المائة، وصارت روسيا تملك ثاني أكبر احتياطي للعملات الصعبة في العالم بعد الصين.

وبالتوازي مع تمتين الوحدة الداخلية لروسيا، ومع إنعاش الاقتصاد الروسي، لجأ بوتين إلى تحديث القوات المسلحة ليكتمل بذلك ثالوث القوة الروسية، الأساس المتين لعودة روسيا كقطب في السياسة الدولية، ولم يبق سوى انتهاز الفرصة المواتية للتعبير عن ذلك فكانت الأزمة السورية.

لم تنشغل روسيا كثيراً بثورات “الربيع العربي” طالما كانت لا تزال تجري في بلدان عربية محسوبة بالأساس على الدول الغربية، وبرغم معارضتها للتدخل العسكري في ليبيا، لكنها مع ذلك وافقت على قرار مجلس الأمن الذي أجاز ذلك. لكن ما إن تحرك الشعب السوري ضد نظامه مطالباً بالحرية والديمقراطية حتى وقفت روسيا بقوة إلى جانب النظام، وقدمت له الدعم السياسي والعسكري، وأمّنت له الحماية ضد تدخلات الدول الغربية لإسقاطه عسكرياً. إن خصوصية الأزمة السورية الناجمة من حيث الأساس عن موقع سوريا الجيواستراتيجي، وما ينجم عنه من تأثير على دول الجوار الأخرى، وكذلك العلاقة التاريخية بين روسيا وسوريا، وبين إيران وسوريا حليفتي روسيا، سمحت لروسيا أن تلعب دوراً قطبياً في السياسة الدولية من جديد، بمساعدة كل من الصين ومجموعة دول البريكس الأخرى.

اليوم لا أحد يستطيع تجاهل دور روسيا في السياسة الدولية، وإذا كان تفجر الأحداث في أوكرانيا سوف يشكل ضغطاً جديداً على روسيا، إلا أنه من جانب آخر سوف يشكل امتحاناً جديداً لقطبية روسيا، وسوف تنجح فيه لكن الثمن سوف يكون باهظاً خصوصاً من اقتصادها. أوكرانيا بالنسبة لروسيا أهم بكثير من سوريا، فهي تعدها جزءاً من بيتها الداخلي، ومن مجالها الحيوي الاستراتيجي، لما لها من تأثير على أمنها وعلى مصالحها، لذلك لن تتخلى عنها أبداً، وهي تمتلك فيها عناصر قوة لا تمتلكها في سوريا. لا شك بأن الأزمة الأوكرانية سوف تزيح مؤقتاً الأزمة السورية من واجهة المشهد السياسي الدولي، لكنها مع ذلك لن تضعف من التشدد الروسي تجاه الحلول المطروحة لها في مؤتمر جنيف 2. فسوريا التي شكلت بداية عودة القطبية الروسية إلى المسرح الدولي لن تتخلى عنها ببساطة تحت ضغط الأحداث المرتبطة بتفجير الأزمة الأوكرانية، بل على الأرجح سوف تزيدها تشدداً.

يمكن تصور أن اتخاذ القرار الروسي باجتياح أوكرانيا عسكرياً لم يكن سهلاً، وهو بلا شك قد خضع لحسابات كثيرة ومعمقة، فالدول الغربية لن تبقى غير مبالية، وها هي تحاصر روسيا اقتصادياً وسياسياً وحتى ثقافياً، بإجراءات تقارب العنصرية إلى حد كبير(اتخذت إجراءات لمقاطعة الرياضيين الروس، وطال المنع المحاضرات عن أدب ديستويفسكي في إحدى الجامعات الأوروبية، ولم ينجوا الروس المقيمون في بلدان أوروبا من الإجراءات العقابية..). وعلى الأرجح سوف تعمل الدول الغربية جاهدة على تحويل أوكرانيا لأفغانستان جديدة تغرق روسيا فيها. ورغم كل شيء فإن روسيا لن تتوقف وتكتفي بـ”إعادة المكانة التي تستحقها روسيا في القارة الأوروبية والمشهد العالمي” بحسب ما صرح به بوتين، التي يجري اختبار جديتها وعزمها بصدد تحقيقه من جديد، بل على الأرجح سوف تحسم المسألة نهائياً بتمكين الموالين لها في أوكرانيا من السلطة في البلد لإنشاء نظام موالٍ لها في كييف كمقدمة لقيام نوع من الاتحاد يضمها إلى روسيا وبيلاروسا، إنه اتحاد سلافي لطالما حلمت روسيا به.