عالم ما بعد 24 شباط

محمد سيد رصاص

 جرت في يوم الرابع والعشرين من شباط/ فبراير 2022، محاولة انقلاب على نظام القطب الواحد الأميركي للعالم، هذا النظام الذي بدأ منذ خريف 1989 مع هزيمة الاتحاد السوفياتي أمام الولايات المتحدة الأميركية في الحرب الباردة. لم يكن هناك سابقة لواشنطن في القطبية الواحدية للعالم سوى روما. روسيا في محاولتها الانقلابية هذه  تكرر ما فعلته الدولة الساسانية، التي قامت في عام 226 ميلادية، ضد دولة القطب الواحد الرومانية للعالم التي أصبحت هكذا منذ انتصار روما على المصريين في معركة أكتيوم بعام 31 قبل الميلاد. نجح الانقلاب الساساني في إنشاء عالم ثنائي القطب وقد بان هذا النجاح بعد مئة عام مع ضعف قبضة الرومان عندما انتقلت العاصمة الرومانية إلى بيزنطة شرقاً ثم عندما انقسمت الامبراطورية الرومانية بعام 395 إلى شرقية وغربية.

لا يمكن الآن القول بأن محاولة انقلاب فلاديمير بوتين هي ناجحة، فهذا سيحتاج لزمن لكي يبان، وربما تكون محاولة انقلابية فاشلة، ولكن ما جرى في الرابع والعشرين من شباط 2022 عبر الغزو الروسي لأوكرانيا هو أهم حدث في العلاقات الدولية ما بعد انتهاء الحرب الباردة.

من المهم الآن، ولو بعد أسابيع من ذلك اليوم المفصلي، تفحص الصورة العالمية لما بعد 24 شباط 2022. في هذا الصدد لا يوجد أفضل من تحليل تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على الحدث الروسي- الأوكراني في يوم 2 آذار، ولو أنه لا يعطي صورة كافية. من أصل أعضاء منظمة الأمم المتحدة ذات الـ 193دولة صوتت مع روسيا أربع دول فقط هي بيلاروسيا وسوريا وإريتريا وكوريا الشمالية.

ليس هذا دليلاً على العزلة الروسية فالدول الخمس وثلاثون التي امتنعت عن التصويت مواقفها ليست بالتضاد مع موسكو، بل بعضها حليف ولو لم يبلغ درجة الحلف المعلن، مثل الصين، ولكن لاعتبارات تتعلق بمشكلتي التبت والايغور في سينكيانغ الصينية (أوتركستان الصينية) فإن بكين لا تستطيع تأييد ما فعلته موسكو في أوكرانيا فيما يتعلق باقتطاع شبه جزيرة القرم أو باعتراف الكرملين بجمهوريتين انفصاليتين في الشرق الأوكراني، وبالتأكيد فإن نفس الاعتبار هو ما جعل ايران، ذات القوميات المتعددة، والهند، التي لديها انفصاليون في كشمير، تمتنعان عن التصويت. لولا الدعم الصيني عبر لقاء 4 شباط بين بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ ما كانت روسيا لتقوم بما قامت به، كما أن إيران تجد نفسها وسط المجابهة مع الأميركان في حالة تلاقي مصالح وأهداف مع محور بكين- موسكو، ولو أن المحاولة الروسية الأخيرة في مفاوضات فيينا لإعادة إحياء اتفاق 2015 حول الملف النووي الإيراني، من حيث طلب موسكو أن يكون هناك إعفاء لعلاقاتها الاقتصادية مع إيران من العقوبات الأميركية الأخيرة كشرط لتوقيعها من جديد على الاتفاق، تشي بأن الروس من خلال وضعهم هذه العقبة لا يريدون في الظرف الدولي المستجد أن يتم اتفاق واشنطن وطهران، ليس فقط من احتمال أن يكون الغاز والنفط الإيرانيين من البدائل المحتملة للغاز والنفط الروسيين للاتحاد الأوروبي، وإنما لأن الروس يريدون الآن الضغط على الغربيين في نقطة ضعف حاجتهم للطاقة ولو أوجع هذا الضغط الروسي طهران.

الهند بامتناعها عن التصويت أيضاً تعلن أنها ليست ما يطمح له الأميركان في أن تكون ضد موسكو حتى ولو أوحى الكرملين بأنه في مسافة قصيرة من حلف مع خصم نيودلهي في بكين. من أكبر المفاجآت بين الممتنعين كانت باكستان التي أوحت من خلال ذلك بأن علاقاتها مع الصين ذات أرجحية على سجلها القديم في العلاقات الوثيقة مع واشنطن والتي تصدعت بفترة ما بعد 11سبتمبر 2001.

من المفاجآت كثرة الدول الأفريقية التي امتنعت عن التصويت (مثل جنوب افريقية وموزامبيق وأنغولا وتنزانيا والسنغال ومالي والكونغو) أو التي امتنعت عن الحضور (مثل إثيوبيا) وهذا يمكن أن يعزى للنفوذ الصيني الاقتصادي في القارة السمراء، ومن المفاجآت كذلك عدم تصويت أي جمهورية سوفياتية سابقة غير بيلاروسيا لصالح موسكو.

يمكن إضافة ملاحظات أخرى على عالم ما بعد 24 شباط: أولاً، امتناع السعودية والإمارات عن التجاوب مع الضغط الأميركي من أجل زيادة إنتاج النفط وذلك لوقف ارتفاع الأسعار. ثانياً، الدور البريطاني في تسعير المجابهة مع موسكو في وقت نرى باريس وبرلين تسعيان للتسوية، وهو ما يجب ربطه مع انتقاء واشنطن للندن لكي تكون رفيقتها في تحالف (أوكوس) بمنطقة المحيط الهادئ- المحيط الهندي الموجه ضد الصين، الذي قرأه الفرنسيون بأنه تحالف يدل على نظرة تهميشية من الأميركان للقارة العجوز في وقت ينزاح ثقل الاقتصاد العالمي نحو الشرق الآسيوي، وليس مستبعداً أن تكون هناك قراءة في لندن، التي كانت سياستها منذ حرب السنوات السبع مع الفرنسيين بفترة 1756-1763 تتركز على منع نشوء قوة مسيطرة في البر الأوروبي، بأن ما يجري في أوكرانية سيزيد من ضعف الاتحاد الأوروبي ويكشف هشاشته ونقاط ضعفه ويجعل الأوروبيين يرتمون مذعورين في الحضن الأميركي خوفاً من الدب الروسي، تماماً كما جرى في النصف الثاني من الأربعينيات لما بدأت الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو.

هناك نقطة ثالثة قد تكون مفصلية، وهي أن حاجة الأوروبيين إلى مصادر بديلة للنفط والغاز الروسيين، والتي أعلن الأوروبيون منذ أيام عن وضع خطة يراد تحقيقها لذلك في عام2027، قد تعيد الشرق الأوسط إلى الأهمية العالمية السابقة كمصدر رئيسي للطاقة العالمية كما كان منذ أربعينيات القرن العشرين، تلك الأهمية التي ضعفت وخبت بعد اتجاه واشنطن نحو الانزياح نحو الشرق الأقصى منذ عام 2011 وإدارة الظهر للشرق الأوسط بعد خيبتها العراقية، وربما كان اهتمام الروس الشديد بالشرق الأوسط  في السنوات الأخيرة هو أساساً من أجل محاولة منع ذلك.

كتكثيف: يلفت الانتباه في طرفي حلبة الصراع الرئيسيين، أي موسكو وواشنطن، ما يحمله هذا الصراع من حجم في المغامرة الروسية عندما ألقت موسكو بنفسها في مواجهة مباشرة مع القطب الواحد للعالم، ليس في مواجهة طرفية كما في جيورجيا 2008 أو القرم 2014، بل في عملية عسكرية هي في مواجهة واشنطن حتى ولو كانت غير مباشرة عبر الأرض الأوكرانية نتائجها إن نجحت فيها موسكو ستقوض نظام القطب الواحد الأميركي وإن جرت فيها تسوية مرضية للكرملين ستهز وتزعزع الواحدية الأميركية العالمية. على الأرجح أن هذا هو الذي يدفع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى أن يكون غير تسووي تجاه الرئيس الروسي، وهو ما يمكن تلمسه عند رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون عندما يقول بأن “بوتين يجب أن يفشل”. هذا الوضع غير الواضح لمسار الصراع هو الذي يدفع الصينيين إلى موقف انتظاري حذر، فيما كانوا قبل 24شباط أكثر حماساً  وتأييداً للروس،وهم مقتنعون بأن مواجهة بوتين- بايدن الحالية في أوكرانية ستختبر مدى قوة ونقاط ضعف واشنطن التي تطمح بكين ولو عبر تزعمها لحلف صيني- روسي إلى تحقيق عالم متعدد الأقطاب أو الثنائية القطبية.