دبلوماسية الكوارث

لم تنته بعد مفاعيل الكارثة الفظيعة التي أصابت كلاً من تركيا وسوريا، سواء على صعيد تقدير مدى الخراب المادي الذي سببه الزلزال، أو على صعيد التكلفة البشرية من الموتى والجرحى والناس التي أصبحت بلا مأوى. ويأتي بعد ذلك معرفة مدى تأثيرها الاقتصادي والاجتماعي، التي تقدرها المؤسسات الدولية بأنها ستبلغ عشرات المليارات من الدولارات والتي ستثقل، على كل حال، الاقتصادات المأزومة للدولتين المنكوبتين، رغم الدعم الإنساني الدولي.

وسريعاً برزت إلى سطح هذه الفاجعة المؤلمة الارتدادات السياسية المباشرة، إذ لم يكن متوقعاً حصولها على هذا النحو المستعجل، على الأقل في المدى المنظور، سواء أكان ذلك على صعيد العلاقات مع الدول التي كانت كلّ من أنقرة ودمشق تعتبرهما خصوماً قبل الكارثة، أم على صعيد الأجندات الداخلية للنظامين الحاكمين.

وللتأكيد على ذلك، نجد عدداً من المعطيات، يأتي في مقدّمتها، الانعطافة الواضحة في العلاقات التركية-اليونانية، والتي أكد وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، خلال زيارة نظيره اليوناني لتركيا على تطبيع العلاقات، رغم خلافات البلدين الحادّة.

وقامت أرمينيا بفتح معابرها الحدودية مع تركيا بعد إغلاقٍ دام لـ 35 عاماً. وبادر الرئيس المصري إلى التواصل مع نظيره التركي وأرسل مساعدات إنسانية، كذلك فعلت السعودية ودول الخليج.

ولعل حاجة الاقتصاد التركي إلى الدعم في السنوات القادمة والسعي لإخراجه من أزمته التي تضاعفت مع كارثة الزلزال، دفعت النظام التركي للاضطرار إلى العمل على تحسين علاقاته مع الدول التي كان يخاصمها أو يبادلها العداء.

 وعلى الصعيد الداخلي التركي، أربكت الكارثة أجندة الرئيس التركي أردوغان وحزبه الحاكم. حيث أن رغبته بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، قامت على تقديره أن ذلك سيمكّنه من تقليص فرص معارضته في النجاح في الانتخابات، في حين أن إجراء الانتخابات في الموعد المسبّق الذي حُدد لها، أصبح موضع شك بعد كارثة الزلزال. أقله، أن مئات الآلاف من الناخبين، قتلوا وجرحوا وشردوا.

ما يعني أن تركيا ستشهد انعطافات جديدة غير مسبوقة على صعيد علاقاتها الدبلوماسية مع دول كانت تخاصمها. وأيضاً على صعيد السياسات الانتخابية الداخلية.

بيد أن عاملاً واحداً في سياسات النظام التركي يبدو ثابتاً وغير قابل للتغيير رغم إمكانية حدوث انعطافات في كل اتجاه، وهذا العامل هو العداء اللامحدود للشعب الكردي، إذ نجد في عدم رد تركيا على المبادرة التي أعلنها حزب العمال الكردستاني المتضمّنة وقف إطلاق النار من جانب واحد بسبب الكارثة الإنسانية التي أصابت تركيا، بأنه إصرار على اتباع النظام التركي سياساته العدوانية السابقة. 

في المقابل، رغم مواقف الإدارة الذاتية الديمقراطية الإيجابية الداعية للحوار ومسعاها لتقديم الدعم والمساعدة للمناطق السورية المنكوبة التي تقع تحت الاحتلال التركي، نجد تركيا أيضاً تقابل تلك المبادرات بعدم اكتراث وتسعى لإفشالها، بل استمرت أنقرة في حربها خلال هذه اللحظات العصيبة ووجهت مسيّراتها لضرب مناطق الإدارة الذاتية في ريف كوباني الغربي وفقدان عنصر من قوات سوريا الديمقراطية لحياته. هذا فضلاً عن تمسك تركيا بتهديداتها المتواصلة لغزو شمال شرقي سوريا.

أما في مناطق السيطرة والاحتلال التركي في شمال غربي سوريا، فكان واضحاً التلكؤ التركي والدولي في تقديم المساعدة العاجلة للسوريين هناك. كما كشفت الأحداث تفاهة مواقف، أو بالأحرى غياب مواقف المعارضة السورية المرتبطة بتركيا ومدى هشاشتها، وعجزها عن القيام بأقل الخطوات دون موافقة تركية.

في حين أن ما حصل في مناطق سيطرة نظام الطغمة؛ فقد كان مأساوياً للغاية، إذ تُركت الناس في المناطق المنكوبة لوحدها، تزيل الأنقاض بأياديها العارية، وبوسائل بدائية، ولم يحرك النظام ساكناً إلا مع بدء وصول المساعدات له.

ما يثير الانتباه، أن رئيس نظام السوري، رغم هول الكارثة التي أصابت السوريين، لم يلقِ كلمة أو خطاباً يتوجه فيه للسوريين ليعزيهم، وأنه عندما قرر زيارة بعض المواقع المنكوبة، بعد قرابة أسبوع على حدوث الزلزال، كانت البسمة ترتسم على ملامحه وبدا مبتهجاً؟!.

ربما يعود الأمر في ذلك إلى أن النظام وبعض حلفائه يراهنون على أن هذه الكارثة ستدفع باتجاه عملية تطبيع واسعة معه، وأن العملية ستسير قدماً وبسرعة أكبر وبدون ضغوط جدية من الإدارة الأميركية على لجمها. لاسيما أن الإدارة الأميركية اضطرها الإحراج الدولي إلى الإعلان عن وقف العمل مؤقتاً بعقوبات قانون قيصر لمدة ستة أشهر. وإن كانت القناعة الراسخة تشير إلى أن العقوبات لم تضعف النظام بل على العكس أضعفت الشعب السوري وقدرته على مواجهة ومقاومة النظام. من جهة أخرى، وصل وفد حكومي لبناني، وآخر إماراتي، ورفعت تونس تمثيلها إلى مستوى سفير في دمشق، وتواصل الرئيس المصري مع نظيره السوري. وهنا أيضاً نجد أن النظام منع، ومن ثم أعاق، المساعدات التي أرسلتها الإدارة الذاتية للمناطق المنكوبة، واستمر في خطابه العدائي لها.

قد لا تتعرّض مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا إلى غزو بري تركي وشيك، أو من طرف النظام، بسبب الاضطراب العام في الإقليم الذي سببه الزلزال. ولكن ما هو مؤكد أن عدائية النظامين التركي والسوري لها، لم تخفت أو تضعف، بل تزايدت. ما يعطي، في كل الأحوال، فسحة من الزمن، لكي تقوّي الإدارة الذاتية نفسها، وتواجه السلبيات التي تعتريها، وتتطور على كل الصعد، وبأوسع مدى ممكن من المشاركة السياسية والشعبية، استعداداً للحظات حاسمة قادمة، يتقرر فيها مصير الشعب السوري برمته، ومستقبل بلادنا.