الإعلام الرقمي ودوره في تغييب العقل وتزييف الوعي الجمعي
د. مهيب صالحة
منذ ولادة الشبكة العنكبوتية والتوسع في استخدام وسائل التواصل الجمعي الجديدة وتكنولوجيا المعلومات الحديثة، والعالم يشهد تغييرات جذريّة في تعاطيه مع أحداث الواقع ومعطياته وزوايا رؤيته. ولم تعد وسائل الإعلام التقليدية تتفرد في تشكيل أو إعادة تشكيل الوعي، الجمعي أو الفردي، ولا في التلاعب بالعقول، بتغييبها أو باستحضارها، وفق أجندات محدّدة يراد منها توجيه الرأي العام حيال قضايا عامة، إنسانية، أو قضايا خاصة وطنية.
لقد غدت الميديا الحديثة وسيلة البشرية الأسرع في السفر عبر مدارات قصيرة حول كوكب كنا نراه ضخماً، وإذ به صار قرية صغيرة يعيش فيها أكثر من سبعة مليارات إنسان، كل خطوط التواصل مفتوحة على مدار الساعة فيما بينهم، بفعل عولمة الكلمة والصوت والصورة، وعميق تأثيرها في تفكير الإنسان المعاصر وقيمه ووجدانه وسلوكه.
فالهاشتاغ فكرة أو جملة مختصرة، والصورة تشكيل بمختلف الألوان والانطباعات، والفيديو حكاية تنثر الورود بأنواعها في كل مكان... هذه الومضات الطائرة مجرد رسائل مفتوحة لا تمر على رقابة، وتصل بسرعة نبضة قلب أو بثوانٍ معدودة، وتؤثر في عقول الأفراد ووعيهم الجمعي أيما تأثير، إمّا باستمالتهم إلى قضية ما، أو اللعب بمشاعرهم وعواطفهم، أو تشكيل وإعادة تشكيل مخزونهم الثقافي وذائقتهم الجمالية ومنظومتهم القيمية، أو تكوين وإعادة تكوين نظراتهم تجاه الوجود والحياة.
إنّ تغييب العقل، أو اختلاق الوهم من رحم المعاناة، حكاية ليست بجديدة، بل هي صناعة قديمة تتّخذ أشكالاً وجواهر مختلفة باختلاف الموضوع والحبكة والقفلة، وباختلاف الزمان والمكان والجمهور والأدوات.. وطالما وسائل الإعلام وتكنولوجيا المعرفة الحديثة، وخاصة الرقمية، هي الأداة الرئيسة في هذه الصناعة، كونها نافذة البشرية المفتوحة على الأحداث والوقائع، فهي تشكل تصورات البشر ونظراتهم إلى مختلف الأمور والقضايا ووعيهم لها، في ظل تراجع ملحوظ ومتزايد لدور الكتاب والمسرح والسينما.
وفي الوقت ذاته باتت ربما الوسيلة الوحيدة التي تستعمل بفاعلية عالية في تزييف الوعي الجمعي، خصوصاً في المجتمعات المستهلكة لمنتجات الثورة المعرفية والتكنولوجية.
لقد اشتهرت الأنظمة الشمولية الاستبدادية بتسخير "البروباغندا" الإعلامية لتحقيق أغراض أيديولوجية وسياسية وثقافية، تصب في مصلحة بقائها وسيطرتها. وأكثر الأمثلة تعبيراً عن استخدام "البروباغندا" الإعلامية في تغييب عقل الإنسان وتزييف الوعي الجمعي هو الإعلام النازي، بقيادة الثعلب "غوبلز"، ولعل من أشهر مقولاته التي تختصر كره النازية للثقافة والشفافية كونهما أمضى سلاح في مواجهة وتعرية الإعلام الزائف "اكذب اكذب حتى يصدقك الناس" و"أعطني إعلاماً كاذباً أعطيك شعباً بلا وعي" و"كلما سمعت كلمة (مثقف) تحسست مسدسي".
لقد أصبح الإعلام الرقمي من أهم الأدوات الاستراتيجية في عمليات تشكيل المعتقدات وصناعة الأفكار والرأي العام، لسهولة استخدامه وسرعة نشره للأخبار والأحداث والمواقف، مما ينمّي شراهة الحكومات والتنظيمات لاستخدامه في قيادة الرأي العام وتوجيهه وفق ما يخدم مصالحها.
ومن بين النظريات التي تستعمل في الإعلام الرقمي بغية تغييب العقل وتزيف الوعي الجمعي:
أولاً - نظرية "وهم الحقيقة": وترتكز على مفهوم الخلط بين الحقيقة والوهم عبر سرديات تنطوي على بعض أوجه الحقيقة، مبعثرة في إطار من أكاذيب تشوه الواقع الملموس، وتضلل الرأي العام، وتجعله عاجزاً عن تحليل الواقع ومعطياته تحليلاً علمياً أو منطقياً، وبالتالي يسهل توجيهه نحو أهداف معينة.
إنّ جلّ اهتمام صانع الوهم هو تغييب العقل من خلال "بروباغندا" إعلامية أو نشر إشاعات وأكاذيب تخفي الحقيقة عن الناس لاستمالتهم، وتشويه الوقائع لدرجة تدفعهم إلى تبني مواقف محددة ومجهزة مسبقاً، وقابلة للتغير مع تغير أهداف صانع الوهم، وهذا هو التلاعب بالعقول، الذي يفصل الناس عن واقعهم، ويشوه رؤيتهم لقضاياهم، وهذا هو - في المحصلة - تزييف الوعي الجمعي.
لقد استعمل إعلام المعارضة وإعلام النظام منذ بداية الحرب الأهلية "بروباغندا" التحرير، ومصطلح "تحرير" مصطلح ملتبس يراد منه شرعنة العنف والقتل في ذهنية الناس، على قاعدة الحق والعدل من وجهة نظر كل طرف.
ولكن كيف يكون تحريراً، والناس تحت سلطة المعارضة يذوقون أكثر مما ذاقوه وهم تحت سلطة النظام، من ذل وقمع وتجويع وإلغاء؟!.. وكيف يكون تحريراً من الإرهاب والناس ينزحون عن بيوتهم، وتعفّش بيوتهم، وتصير المدن والبلدات أطلالاً تلعب فيها الريح؟!. وكيف تشرعن المعارضة لنفسها ما يفعله النظام؟ وكيف يشرعن النظام لنفسه ما تفعله المعارضة؟.
أسئلة لا يجد المرء أجوبة عنها إلّا في عملية بيع الوهم للناس من كلا الطرفين، مخلوطاً بالحقيقة المشوهة، بغية التلاعب بعقولهم وتزييف وعيهم الجمعي.
لقد مورست على الناس أكبر عملية خداع للعقل وتزييف للوعي لدرجة جعلتهم يتقبلون الواقع المرير الذي أصاب البلد من دمار وخراب ودماء وتهجير وتجويع، وتهتّك نسيجه المجتمعي، ويبررونه تحت عنوان "انتصار نظام على إرهاب" و"انتصار ثورة على نظام"، هذا عدا عن إطلاق الإعلام الرقمي أخبار كاذبة، ونشر أقوال مشاهير لا سند لها، وتلفيق أحداث لا أساس لها من الصحة، وزرع مفاهيم وقيم ومعتقدات وعادات وتقاليد بالية، بغرض تشويه الواقع، وإفساد الوعي الجمعي.
ثانياً - "نظرية المؤامرة": تستعمل نظرية المؤامرة غالباً في تفسير ظواهر مجتمعية يكتنفها الغموض، أو أحداث تراجيدية، أو مواقف ضارة ربما تحمل في طياتها دلالة على وجود تآمر يدحض جميع البراهين والتفسيرات المحيطة بتلك الأحداث. ولكن عادة ما يكون محتوى تلك النظريات مبني على عواطف أو قناعات مسبقة، حتّى لو كان بعضها صحيحاً أو قريباً من الصحة لأنّ لعبة المصالح تقتضي بعض الصفقات، فهو لا يكفي ليكون سنداً حقيقياً أو منطقياً.
وتنتشر نظرية المؤامرة - في الأعم الأغلب - في الفترات المصحوبة باضطرابات، كما هو الحال خلال الحروب والثورات والاحتجاجات السياسية والأزمات الاقتصادية، وفي أعقاب الكوارث الطبيعية كالزلازل والأوبئة.
ومن الطبيعي أن يكون لنظرية المؤامرة أنصار في كل العالم، طالما لا يقدم كل شيء على حقيقته، وطالما توجد أيضاً دول تنظر إلى الشفافية على أنها تفضح مستورها، عوضاً عن اعتبارها وسيلة ناجعة في تشخيص المشاكل والقضايا ومواجهتها. لكن الذي يميز المنطقة العربية عن غيرها من المناطق أنّ نظرية المؤامرة تنتشر فيها كالنار في الهشيم، وتجثم بقوة على التفكير السياسي الذي يغيب العقول ويفسد الوعي الجمعي فيها، وبصفة عامة فإنّ ما يوحد المؤمنين بنظرية المؤامرة في العالم، هو إعفاء أنفسهم من إثبات ما يدّعون والاكتفاء بالبحث عن عيوب ما يدّعيه الآخرون، لأنّ وجود مؤامرة - في عقولهم - أطرافها قد يكونوا بحالة صراع مصالح في الواقع، تريحهم من البحث أو التحليل أو الحصول على معلومات جديدة.
منذ اللحظة الأولى لانطلاق الاحتجاجات الشعبية في دول الربيع العربي، تم تسويق نظرية المؤامرة في وسائل الإعلام من أجل شيطنة المحتجين وتصويرهم على أنهم عدو، وبالتالي "شرعنة" استخدام العنف ضدّهم لكسر إرادتهم السلمية في التغيير. والغريب أنّ كلّ المعارضات التي ركبت موجة الاحتجاجات وحرّفت مسارها السلمي، تبنت فيما بعد نظرية المؤامرة، لتبرهن عن قوتها وعن عجزها في آنٍ.
ويتكرر سوق نظرية المؤامرة عند كلّ خطب جلل أو حدث خطير، من أجل تغييب العقل وتزييف الوعي الجمعي - كما هو حاصل الآن بالنسبة لوباء كورونا العالمي- لتبرير تخاذل الدول والتهرب من مسؤولياتها، عوضاً عن القيام بفعل شيء ما لإنقاذ الناس من خطره الداهم، أسوة بكلّ دول العالم التي تحترم نفسها وشعوبها.
ثالثاً - "نظرية الزعيم": تشاد الأنظمة الاستبدادية الشمولية على منهج عبادة الفرد وتقديس صورة الزعيم. فكل ما يصدر عن الزعيم لا يناقش ولا يجادل فيه، لأنّه لا يخطئ أبداً، ولتحقيق هذه القداسة يستخدم الزعيم الإعلام الرقمي، لنشر "بروباغندا" مبالغ فيها أغلب الأحيان، بالإضافة إلى جيش إلكتروني وظيفته تسويق هذا المنهج بكلّ الوسائل حتّى تترسخ في الوعي الجمعي صورة الزعيم (السوبرمان)، الممسك بكل الخيوط، والمدرك لكلّ تفاصيل دولته ومواطنيها، وبيده الأمر والنهي، والمنع والعطاء إلى درجة تأليهه وعبادته.
ونظراً لانتشار الذهنية الأبوية (البطريركية) في المجتمع الشمولي سواء على مستوى الأفراد أو المجموعات أو التنظيمات أو العائلات فإنّ رسوخ صورة الزعيم على هذا النحو تكون سهلة وبدون عراقيل، وبما أنّ هذه الظاهرة غير حقيقية، وغريبة عن روح العصر وطباعه، فإنّ الإعلام الرقمي يُستخدم كأداة فعالة لترسيخها من خلال تغييب العقل و تزييف الوعي بممارسات من نوع افتعال أزمات وتدخل الزعيم، بعد فشل الحكومة، لحلّها باجتماع واحد معها، أو بمرسوم من بضعة أسطر، أو الترويج لحملات كاذبة كحملات مكافحة الفساد، أو حملات الإصلاح وإقامة العدل، أو ضبط الأسواق ومحاربة طمع التجار، أو حملات مكافحة التهريب والتهرّب الضريبي، أو حملات مكافحة الجريمة المنظمة...
وتمتزج عبادة الفرد بتقديس النصوص في مختلف النواحي، وتساق في هذا الصدد في الإعلام الرقمي نصوص دينية وسياسية وفكرية وثقافية واقتصادية وأقوال لمشاهير لا سند لها ولا قوة منطق، الغرض منها - في الأعم الأغلب - ترسيخ فكرة القداسة وعبادة الفرد لتزييف الوعي وتغييب عقل الإنسان.
لقد جسّد الفنان المصري الكبير عادل إمام على خشبة المسرح شخصية الزعيم الذي ينتجه الوعي، في ظلّ تغييب العقل الجمعي، لكي يعيد إنتاج اللاوعي الجمعي من جديد، عبر كوميديا سوداء تعكس الواقع العربي المرير بدقة متناهية وتختصر في ساعتين قروناً من الاستبداد والضياع والغياب الحضاري.
وتجدر الإشارة إلى كون الإعلام الرقمي سلاح ذو حدّين لأنّ زبائنه يقدرون بالملايين. جيش إلكتروني كبير من مختلف المستويات والرتب والتشكيلات، يزحف على المواقع بالبوستات والتعليقات والحوارات، والإبداع والابتكار، والتجديد والتنوير، في جميع مناحي الحياة، مما يترك انطباعاً مزدوجاً عن حقيقة تأثيره في تشكيل وعي جمعي يتجاوز تأثير الفكر الأيديولوجي الشمولي السائد.
لقد أثبتت الثورات السلمية في دول الربيع العربي - رغم تفاهة نتائجها - مدى تأثير الإعلام الرقمي، في مواجهة الإعلام المؤدلج والخطاب الأحادي، حيث يتشكّل على الدوام في حضرة العقل الدؤوب وعي مضاد لذلك الوعي الزائف، يهدّ صروح الأنظمة والأحزاب الشمولية والأيديولوجيات المنغلقة والجامدة، فاتحاً بداية عصر جديد بثقافة مغايرة، ترتكز على قواعد الحق والقانون وبناء دول ديمقراطية حديثة، ويعتبر خروج الناس بالآلاف في حراك شعبي بدون زعامات أو قيادات، ودونما حاجة لفكر أيديولوجي من أدبيات رائجة عن الثورة، الجزء الحقيقي المضيء من الوعي الجمعي الذي ساهم في تشكيله الإعلام الرقمي.
إنّ تحرير عقل الإنسان من الأوهام المعسولة ببعض أوجه الحقيقة، ومن أسر نظرية المؤامرة التي تصيبه بالكسل، ومن آثار عبادة الزعيم ـ الفرد - وتقديس النصوص، يجعله يرى الأشياء والأمور والقضايا على حقيقتها فيتصدى لها بالعلم الدؤوب والتجربة العملية والعمل المثابر، وطالما ظلت جاثمة عليه فإنّها تبقى تشلّ قدرته على التفكير واجتراح الحلول.