الصفحة الرئيسية / ثقافة / التاريخ : 2019-05-15 06:45:24
بلادٌ لا تصلحُ إلّا للأسف
مسرحية "كلب الآغا"
دمشق – أحمد كنعان - NPA
لعلّ المخرج ياسر دريباتي لم يكن يتوقع حدة ذكاء القضاء في "بلاد الأسف"، ولم يحسب أنَّ رأيه النقديّ بمسرحية "كلب الآغا"، ستكون نتيجته قضاء وقتٍ سعيد بين اللصوص والقتلة والمنحرفين في سجن اللاذقية، لم يخطر بباله أنّ غيرته على مؤسسةٍ عريقةٍ كالمسرح القوميّ السوري (تأسس 1959) ممنوعةٌ قانونياً. ولم يتبادر لذهنه أنّ ممارسته لمهنته كناقدٍ مسرحيّ، مغامرةٌ غيرُ محسوبةِ النتائج حتّى وإنْ كان خريجَ الدفعة الأولى من المعهد العالي للفنون المسرحية 1989، ولكنّ هذا للأسف لن يقنع القضاةَ في بلاد الأسف.
المخرج ياسر دريباتي
(كلب الآغا عرض مسرحي هزيل) ستقول يا ياسر أنّ هذه العبارة ليست إطلاق نارٍ عشوائيّ علني تعجز الحكومة عن وضع حدّ لضحاياه، وليست خرقاً فاجراً للقانون كتعفيش بيوتِ الآخرين وبيع ممتلكاتهم جهاراً نهاراً، ولكنّي أقول لك وللأسف هي عبارةٌ كافية لتنامَ في السجن يا مخرج "الملك هو الملك"، ويا مؤسسَ مهرجان المونودراما العربي الأول.
لم يستطعْ كبحَ جماح غضبه الشاعرُ السوري صقر عليشي، فكتب على صفحته: "إلى أيّة حالٍ وصلت الثقافة في سورية؟ وما هو مستقبلها إذا سُمح بمثل هذه المهازل وتم السكوت عنها."
ليأتي كلام الإعلامي عقبة الناعم كصدى السؤالِ على شكل إجابة "عصفورية ثقافية"، وللأسف!
أعرفُ ما يوجع قلبك حين قلت: "كيف يحظى هكذا عرض برعاية السيد وزير الثقافة؟ وكيف وصل إلى خشبة المسرح القومي في اللاذقية". وأنّك تريد أنْ تعتذرَ من روح رفيق الصبان أول مخرج في المسرح القومي، وتريد أنْ تضعَ وردةً على قبر المؤسس نهاد قلعي، ناصعةٌ نواياك، ولكنّها للأسف غيرُ قانونية في بلاد الأسف.
قال لي شقيقُك مروان: "عندما علمنا بتوقيف ياسر أُصبنا بالذهول حيث لم نكن نتوقع أنّ السبب في ذلك هو رأيه النقدي بالعرض المسرحي واحترنا بين الضحك والبكاء... من الواضح أنّ القصة مفبركة، فالكلام الذي كتبه ياسر على صفحته واضح، وما زال موجوداً، ولا يوجد كلمة واحدة يتعرض بها لأي شخص لا للمخرج ولا لغيره... ياسر كان يتحدث عن عرض مسرحي ولم يتحدث عن أشخاص، فالعقول الكبيرة تنتقد أفكار ولا تنتقد أشخاص... نعيش في اللاذقية منذ خلقنا ولم نُبدِ إلّا كلّ الاحترام والمحبة للجميع، ولكن هذا لا يعني أن نمدحَ أعمالاً فنية هزيلة".
السيناريست علي وجيه يبدو مذهولاً غيرَ مصدقٍ: "إذا كان هذا الكلام صحيح فهو مؤسف ومحزن". هي إذاً بلادُ الحزن وبلادُ الأسف.
أعرفُ أنها طريقتك يا ياسر بالتعبير عن الحبّ لخشبة المسرح وللحياةِ الثقافية عامةً وحتّى للمخرج الذي لجأ للقضاء، وكانت غايتك أن نرتقي جميعاً ولو درجة واحدة. لكنّك للأسف تعرف أكثر مني يا مخرج "بلاد أضيق من الحب"، تعرف أنّها بلادٌ لا تصلح إلّا للأسف.
اتّصلتُ بعددٍ من المحامين، واستوضحت الأمرَ وأجمع الأغلبيةُ منهم على أنّ ما قام به ياسر دريباتي حقٌ مضمونٌ نظرياًّ بالفقرة الثانية من المادة 42 من الدستور السوريّ التي تقول: "لكلّ مواطنٍ الحقّ في أنْ يُعربَ عن رأيهِ بحريةٍ وعلنيةٍ بالقولِ أو بالكتابةِ أو بوسائلِ التعبيرِ كافة"، وأنّ توقيفه مسألةٌ غيرُ قانونية.
فكيف إذا تمّ التغاضي عن مادةٍ من الدستور وكيف تمّتِ الفبركة؟ وكيف احتُجزت حريةُ مواطنٍ دون مسوغ؟
وحين تبيّن لنا أنّ المدعي المخرج فايز صبوح هو قريبُ النائب العام في اللاذقية الأستاذ شكيب صبوح بَطُلَ العجبُ، وانتشرت في الفضاء رائحةُ شُبهة مخزية. ولدى اتصالنا بالمدعي المخرج فايز صبوح بدا متمسكاً برأيه وقال: "برأيك ماذا يقصد ياسر دريباتي حين يحضر أحد عروضي ثم يقول (هذا المألوف الذي يحوّل المسرح القومي إلى مفرخة للأميين وأشباه الفنانين) إنه يقصدني بالتأكيد، وهذا الكلام خاطئ، فأنا لست شبيه فنان، أنا عضو نقابة الفنانين منذ 25 سنة ولست أمياً، أنا أحمل الشهادة الثانوية من العام 1980."
وعند سؤاله عن تأثير قريبه النائب العام بالموضوع قال :"أنا طالبت بحقي كمواطن عادي، وقد قمت اليوم بإسقاط هذا الحق عن ياسر دريباتي وخرج من التوقيف".
أُفرج عن دريباتي بعد مهزلةِ توقيف ليومين، ولدى اتصالنا به قال: "هذا أمرٌ يثيرُ أكثرَ من تساؤلٍ حول تعاطي القضاء الملتبس مع ما يُسمّى الجرائمَ الالكترونيّة، هذا المصطلحُ الذي يسلط سيف رقيبٍ جديد على كلّ ما يُقال ويكتب ويغلق فضاء حرّ ومفتوح ويُحيل الرأي إلى جرم يعاقبُ عليه القانون" وأضاف "قبل ذلك من المهم الإشارة إلى السلوك الأخلاقي والفكري الذي يبيح (للفنان)، تقديم زميله صاحب الرأي المخالف إلى القضاء، ففي ذلك إشارةٌ قويةٌ إلى مدى أهلية هذا (الفنان) للعمل في المسرح، هذا الفن الذي يقوم على الحوار، حوار الأشخاص والثقافات، "الحوار المتعدد المركب" على حد تعبير سعدالله ونوس".
لعلّ إقامة الأديب والفنان أحمد اسكندر سليمان في ألمانيا قد زادت من رومنسيته، فكتب: "ليس عيباً ولا يقللُ من قيمة السيد وزير الثقافة أن يذهبَ إلى اللاذقية ويفتحَ بابَ السجن بنفسه، وأنْ يقدم لياسر دريباتي باقةَ وردٍ مع اعتذار وتعويض مناسب".
أمّا نحن العالقون في وحلِ الفساد العظيم فلدينا أملٌ بتدخل وزير الثقافة الروسي أكثرَ مما لدينا أملٌ بتدخل وزير الثقافة السوري.
وكما كتب الأديب عصام حسن على صفحته: "سيتم الإفراج عن ياسر دريباتي، ولكن من سيفرج عن إشارات التعجب والاستفهام حول سلوك القضاء في هذه المسألة".
ألا يستحقّ مئاتُ الأدباء والفنانين الذين استنكروا الأمرَ أنْ يُفتَحَ تحقيقٌ سريع في النيابة العامة في اللاذقية، للتأكدِ من عدم صرفِ النفوذ لصالح الأقارب ونشر نتائجه للرأي العام؟ ألا يستحق المخرج ياسر دريباتي اعتذراً وإعادة اعتبار.
اصمتوا، رويداً رويداً يقلُّ الهواء، اشهقوا، ولا تنطقوا حفاظاً على ما تبقى من حياء وأوكسجين، وشيئاً فشيئاً يعمُّ الظلام، فناموا صامتين، واستيقظوا صامتين فكلُّ كلامٍ لا يبرر البشاعة نعتبره جريمة، اصمتوا فالصمت مسموحٌ هنا... وأهلاً بكم في بلاد الأسف.