عقدة تركيا في تدمير التراث الإنساني لا تعرف حدوداً
رستم عبدو
تستمرّ الدولة التركية بتجاهل القوانين والاتفاقيات الدولية، المعنية بحماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي، من خلال تجاوزاتها المتكرّرة بحق الممتلكات الثقافية، على الرغم من أنها عضو في أهم المؤسسات المعنية بالتراث والثقافة، وكذلك توقيعها على معظم الاتفاقيات التي تدعو إلى احترام هذه الممتلكات وحمايتها، وكذلك عدم استهداف تلك الممتلكات أينما كانت وعدم إلحاق أي دمار بها أو حتى الاستيلاء عليها.
فالقبائل التركية التي قدِمت إلى آسيا الصغرى العريقة بأصالتها التاريخية، في القرن الحادي عشر الميلادي وأسّست إمبراطورية ثم دولة لهم هناك، عملت بشكل ممنهج - بعد تأسيس الجمهورية التركية في الربع الأول من القرن العشرين الميلادي- على إهمال معظم الممتلكات الثقافية العائدة للحضارات العريقة في الأناضول وشمال ميزوبوتاميا كالحثية والحورية والأوراتية والآشورية والإغريقية والرومانية والبيزنطية والأيوبية, تلك الحضارات التي خلفت وراءها آلاف المواقع والمعالم التي تنتشر اليوم في معظم المدن والولايات التركية، من ضمنها مواقع مسجلة على لوائح اليونسكو للتراث العالمي, الأنكى من ذلك أنّ الجمهورية التركية المستحدثة عملت على طمس وتغييب وتحريف تاريخ معظم تلك الحضارات، إلى جانب تخريب وتدمير الكثير من معالمها، كتلك الموجودة في جنوب شرق الأناضول, وذلك بما يتناسب مع سياستها ومصالحها ومخططاتها، في الوقت الذي نجد أنها تسخِّر كل إمكانياتها وطاقاتها من أجل الحفاظ على الآثار والعمارة العثمانية وإبرازها.
ولسياسة بناء السدود الـ/22/ التي تعمل تركيا على بنائها منذ ثلاثينات القرن الماضي على كل من نهري دجلة والفرات في جنوب شرق الأناضول، أسباب ودوافع سياسية واضحة أكثر منها اقتصادية كما تدعي الدولة التركية، والغاية منها هي تدمير التراث الثقافي لشعوب ميزوبوتاميا الأصيلة ونسف هويتها وتهجير سكانها.
وجوبهت مشاريع بناء السدود التركية والتي أطلق عليها "مشروع الكاب" برفض العديد من الجمعيات والمنظمات التركية والدولية, كونها ستؤدي إلى إغراق العديد من المواقع الأثرية والتاريخية الواقعة جنوب شرق الأناضول, وطالب هؤلاء اليونسكو بالتدخل لوقف المشاريع المتعلقة ببناء السدود ومناجم الفحم المنفذة من جانب الدولة التركية، والتي تهدد بزوال تراث إنساني كامل، كما طالبوا المشرفين على هذه المشاريع بعدم الاستخفاف بتراثها الثقافي الذي يمثل مخزوناً ضخماً.
قدِّر عدد المواقع المهددة بالغمر في جنوب شرق الأناضول بنحو /780/ موقعاً، بالإضافة إلى /1800/ مبنى تاريخي. من هذه المواقع موقع زيوكما الذي يحوي معالم تعود للفترات الحثية والإغريقية والرومانية في غازي عنتاب، ومواقع تابعة لكوموش كايا في آديمان، وموقع هالفتي في أورفا، الذي يحوي مدافن وكهوف ومستوطنات صخرية وقلاع، وكذلك قلعة ديار بكر وأسوارها السوداء المسجلة في لوائح اليونسكو، وأيضاً موقع حسن كيف في باطمان.
ففي الوقت التي تعمل الدولة التركية فيه على إغراق موقع حسن كيف الذي يضم نحو /4000/ كهف و/300/ معلم عائدين للقرون الوسطى و/83/ موقعاً أثرياً استكمالا لمشروعها، تعمل بنفس الوقت على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من المعالم العثمانية المتواجدة فيها؛ فقاموا بنقل حمام أرتوكلو وضريح زينل بيك ومئذنة مسجد سليمان خان - وجميعها تخص الثقافة العثمانية - من حسن كيف إلى مكان آخر، على حساب معالم ومواقع يمتد تاريخها لأكثر من /12/ ألف سنة.
عقدة الدولة التركية وجرائمها بحق التراث الإنساني في الشرق، الذي لا يمت إلى تاريخها الحديث بأية صلة, امتدت لتشمل مواقع أثرية أخرى خارج حدود دولتها، فقد عمدت أواخر عام 2016 إلى تغيير مجرى نهر دجلة بغية غمر جسر عين ديوار الأثري.
وكذلك استهدفت خلال غزوها على مدينة عفرين السورية في عام 2018 الكثير من المواقع الأثرية هناك كمعبد عين دارا ومعالم براد وموقع النبي هوري، وما تزال التعديات بحق معظم مواقعها جارية حتى هذه اللحظة من قبل المدنيين والعسكريين المدعومين من جانب الدولة التركية، فقد أشارت العديد من التقارير إلى التجاوزات الحاصلة في موقع النبي هوري من تنقيب وتجريف وسرقة ونهب بعلم الدولة التركية بل بتحريض منها، لكن بنفس الوقت نجد أنه هناك توجيهات لترميم المسجد العائد للفترة العثمانية والموجود في الموقع المذكور.
هذه الازدواجية والسياسة المتبعة حول التعامل مع التراث الإنساني من قبل الدولة التركية بما يتعلق بالحفاظ على الأثار المادية العائدة للحضارة العثمانية على حساب إهمال وتدمير الحضارات الأخرى لم يعد خاف على أي من المتتبعين لتاريخ الشرق والمنطقة ولا حتى على أيٍ من الجهات المعنية بالتراث الإنساني وإن كان الغالبية منهم يلتزمون بالمشاهدة والصمت.