مستقبل توترات الحدود السورية التركية

حسين زيدو - NPA
تعصف بالحدود السورية التركية توترات عسكرية وعمليات قتالية ارتبطت مباشرة بالأحداث التي اندلعت في الداخل السوري, وهي أحداث امتدت على طول أكثر من/900/ كيلومتر من الحدود السورية التركية, حيث ساهمت الدول الداخلة بالأزمة السورية, وبخاصة تركيا, في حياكة الكثير من المخططات على امتداد الحدود؛ وهي مخططات حديثة وتمتد جذورها لأطماع قديمة.
وتعتبر الحدود الفاصل ما بين الدولتين السورية والتركية هو أكثر خط حدودي ساخن يواجه القلاقل والعمليات القتالية في العهد الحديث, ووصل في بعض الأحيان حد الخطورة العالية نتيجة التصعيد, وعلى سبيل المثال التصعيد الذي حصل في نهاية العام 1998, وتم خفضه من خلال التوقيع على اتفاقية سميت باتفاقية "أضنة". كذلك التصعيد الأخير من خلال التدخل التركي المباشر في الأراضي السورية, وذلك كله بسبب عاملين أساسيين؛ هما المشكلتين المزمنتين العالقتين, والتي همّشت الدولتين حلهما أو تحسينهما, فتسببان القلاقل على الحدود؛ وهما القضية الكردية واختلاف طبيعة أنظمة الحكم في البلدين.
بروز القضية الكردية على الحدود
تساهم الدول التي تحكم الكرد وهي (إيران, تركيا, العراق وسوريا) في طمس القضية الكردية على الحدود الفاصلة بينهما على مر التاريخ, ومنع بروز أية مشاعر قومية كردية حتى إن كانت صغيرة وغير ذات معنى, باستثناء العراق التي توافقت مع الكرد في مشروع حكم فيدرالي؛ نال بموجبه الكرد قسماً من حقوقهم القومية ضمن الدستور العراقي.
ومنذ أن وصلت الأحداث السورية تخوم المناطق الكردية في شمال سوريا, بدأت المشاعر القومية الكردية تطفو في سوريا, وبادر الكرد في تأسيس أطر عسكرية وسياسية تأهباً للحماية وإدارة المناطق بعد الفراغ الذي حدث فعلاَ.
فكانت الإدارة الذاتية الجديدة لشمال سوريا بقيادة كردية, ما سبب تهيجاَ وغضباً لدى تركيا بالدرجة الأولى, فتدخلت تركيا في الأزمة السورية عبر دعم المعارضة السورية, وتحضيرها كرهينة بديلة يستغنى عنها مقابل استنزاف الحلم الكردي في الشمال السوري.
توسع نفوذ الإدارة الذاتية في شمال سوريا حتى باتت ثلث المساحة السورية تدار من قبلها وقواتها (قوات سوريا الديمقراطية), ما دفع بتركيا تنفيذ مخططاتها وحرق أوراقها واحدة تلو الأخرى, فبدأت ببيع المعارضة بالتجزئة وعلى دفعات مقابل اقتطاع أجزاء من الشمال السوري, فاقتطعت جرابلس وإعزاز والباب مقابل صفقة بيع قسم من المعارضة, من ثم اقتطعت عفرين في صفقة بيع ثانية, من ثم رأس العين/ سري كانيه وتل أبيض/ كري سبي في ثالث صفقة بيع. ولا زالت تركيا تحتفظ بالمعارضة في إدلب, وتطمع من خلالها بالحصول على الأجزاء الباقية من الشريط الحدودي.
لم تحرك الدول الإقليمية المعنية بالأزمة السورية (إيران والعراق) ساكناً مقابل تصرفات تركيا بالتعدي على السيادة السورية واقتطاع أجزاء من أراضيها الشمالية, لا بل تكيفوا مع الواقع الجديد بوصفه واقعاً لا يضرهم بقدر ما يضر القضية الكردية ويطمسها.
لم تكن المخططات التركية بدعم المعارضة وبيعها مقابل ضرب الكرد وليدة اللحظة, بل هي امتداد للأطماع التركية القديمة بالتوسع في شمالي كل من سوريا والعراق.
اختلاف طبيعة الحكم
إنَ اختلاف طبيعة أنظمة الحكم في سوريا وتركيا ومولاتهما المذهبية, جعل من الحدود بين البلدين ملتهباً على الدوام ومركزا للتوترات الشديدة. إذ كافح نظام الحكم في سوريا التيارات الإسلامية منذ استلامه دفة السلطة في البلاد, وكان الصراع مع جماعة الإخوان المسلمين من المهام الداخلية الأكثر حساسية وأهمية له.
وكانت تركيا هي الظل، الواقف خلف الأحداث دائماً, ما دفع بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى غض الطرف عن نشاطات حزب العمال الكردستاني على الحدود مع تركيا, فوقع الجانبان السوري والتركي اتفاقيات وتفاهمات سرية وعلنية للحد من التوتر على الحدود وعودة العلاقات بين البلدين, ومن بينها كانت اتفاقية "أضنة", إلا أنه بقي كل ذلك حبراً رطباً على دفتر التطلعات المذهبية, وزال حبر تلك التفاهمات مع بدء الحدث السوري, وعاد العداء من جديد.
إنً تستر نظام الحكم في تركيا بالواجهة العلمانية, لم يمنعها من الظهور كمدافع عن التيار السني للمذهب الإسلامي, وذلك عندما تهيئة الفرصة للظهور, وبخاصة عند بروز القضية الكردية على حدودها الجنوبية, فحضنت تركيا كل التيارات السنية التي قاتلت في سوريا بما فيها المتشددة, ودعمت -علناً بالسلاح والمال - مئات الآلاف من المقاتلين السنة في مواجهة نظام الحكم في سوريا, وذلك لاعتبارات وحسابات مذهبية, وسحبت الأحداث رويداً رويداً باتجاه حدودها لاستهداف الكرد ومقايضة القضية الكردية بالورقة المذهبية, وصعّدت من الأحداث في الآونة الأخيرة بشكل مقصود على الحدود للهدف ذاته.
ضريبة استمرار التوترات على الحدود
سوف يخلق النطاق الموسَّع للعمليات القتالية على الحدود السورية ـ التركية الأرضية الملائمة لحرب محتملة قد تحمل في طياتها خيارات عسكرية جديدة, وتشكيل أحلافاً عسكرية تظهر لأول مرة بشكلها العلني.
إنً استمرار التجاوزات التركية للحدود السورية واقتطاع أراضيها وضرب قوات سوريا الديمقراطية ومن ضمنهم الكرد, يهيئ الأرضية لخلق القلاقل على الحدود وتطويرها إلى حد نشوب حرب واسعة, وإذا ما حيّدت القوتين الكبيرتين أمريكا وروسيا نفسيهما, وتم انجراف قوات الحكومة السورية إلى القتال, قد تتدخل إيران لدعم حليفها بالعتاد والمال والرجال, وتتطور الحرب على كامل الحدود الفاصلة بين سوريا وتركيا, وسيكون الكرد طرفا في الحلف المدافع عن الأراضي السورية.
على تركيا أن تدرك بأن الحرب المقبلة على حدودها الجنوبية ستكون عوامل التمكين الحاسم للكرد فيها أشد حدّة؛ كون الكرد باتوا خبيرين بالتحالفات العسكرية, وقد تتوسع رقعة الحرب لتشمل داخل تركيا أيضا, ولن يكون ظهر القوات التركية محمي من الداخل, ما قد ينضج معها الظروف الذاتية لنهوض المعارضة التركية, التي بدأت تخطوا نحو المواجهة مع العدالة والتنمية, وقد تتسبب الحرب القادمة بانزلاق الدولة التركية نحو فوضى عارمة كضريبة للتوترات الحالية على الحدود.
إنً تجنب مثل هذه السيناريوهات العنيفة على الحدود يتعلق بلجوء تركيا إلى إحكام منطق العقل بدل القوة, واختيار السلام بدل الحرب, والدخول في تفاهمات سليمة وجدية مع الدولة السورية على أساس الشرعية الدولية للحدود المرسومة, ومع الكرد في إطار نيل الحقوق والتعايش المشترك.