السيادة والعنف ومقولات السلام في سوريا
فرهاد حمي
قد يُفهَمُ للوهلة الأولى بأنَّ تناول موضوع السلام في سوريا نوع من ترف فكري أو مناجاة غاندية تُخفي في طياتها الحنين إلى الهدوء والاستقرار ليس إلاّ، لأنَّ خطاب السلم يصطدم على الفور بمنطق القوة وضراوة لعبة التناحر الدولي، وعليه، تدور عجلة الذاكرة الاجتماعية والسياسية مثقلةً بشلال الدم وخيبة الأمل الشعبي، ودياسبورا البحار والمخيمات. حيث تتثاقل ذاكرة كل فرد بذاك الماضي الأليم، والحاضر المضطرب، والمستقبل المجهول.
وسط هذا القنوط النفسي الشعبي والخطر المُفزِّع بعد ثماني سنوات من واقعة سوريا المهولة، ثمَّة محفّزاتٌ تاريخيةٌ وحاضرةٌ تدفعنا إلى إمكانية فتح نوافذ على حلول ممكنةٍ. فمقولة الشاعر الألماني هلدرين الذي وقف بالضدّ من النزعة التشاؤمية "ما ينقذ الوجود أينما وجد الخطر" تُحيلنا في الحقيقة إلى تسليط الضوء على تلك المناشدات القادمة من شمال شرقي سوريا، التي تدعو إلى السلم والتعايش والمساواة، والتي لم تلقى آذاناً صاغية إلى الآن بسبب أسمنتٍ من الأحكام المسبقة المتجذِّرة في الخطابات السلطوية السائدة.
من الجليّ أنَّ بنية الحرب الدائرة في سوريا تكاد تقتلع جذور المجتمع عن بكرة أبيها، غير أنَّ التناقض الذي يتضمن سيناريوهات السلام المطروحة في التعاطي مع الحرب السورية لا يزال رهينة أدبيات القانون الدولي والفكر الغربي الكلاسيكي حول الحرب والسلام، إذ تعظّم تلك الأدبيات شرعية دولة لوياثان عند توماس هوبز، والتي تمنح السيادة المطلقة لجهاز الدولة في فرض آلية الحرب والسلم بغية تجاوز حرب الكل ضدّ الكل على المستوى الداخلي، وترسيم الضوابط والمعايير مع الدول المجاورة. إن كان السلم هو حالة غياب الحرب، فإن سيادة الدولة التي تحتكر العنف وأجهزته، هي من تملك الحق في القول بإعلان السلم والحرب. من المعلوم أنَّ هذه الشرعية القانونية بريادة احتكار الدولة لقرار الحرب والسلم أقحمت التاريخ الحديث في حروب عالمية ومحلية دامية، والسيادة السورية حتماً ليست استثناء!.
المُستهدف من هذه الأطروحات هو التنوُّع المجتمعي خارج الدولة، وما هو متضخم ومتورم، هو جهاز الدولة ومن يهيمن عليه أو من يريد أن يهمين عليه من المعسكر المعارض. سينعت ميشيل فوكو وهو يتناول تاريخ الحرب والسلم في الحضارة الغربية في كتابه( الدفاع عن المجتمع)، بأنَّ قوننة مفهوم السيادة، والأمن الوطني، واحتكار العنف في السلم والحرب من قبل الدولة، هي من تحمل وزر الحروب الضارية في العالم ضدَّ المجتمعات.
ما ورد أعلاه، كان استرسال ضروري في فهم آلية السلم في شمال شرقي سوريا، الذي يتخذ من التنوُّع السوري الحقيقي حاملاً وأساساً لصياغة السلم في مواجهة الحرب، ولاسيما أن هذا التنوُّع التاريخي الطبيعي السوري كان، ولايزال مهددا، في فقدان وجوده في البلاد، نتيجة العنف الذي ينطلق من سيادة الدولة القومية الأحادية من جهة، أو العنف الذي يتلبس الثوب الديني الأصولي الأحادي، والذي يتشابك ويتداخل مع عنف الدولة في خنق التنوع السوري من جهة ثانية. وتالياً، ستدور فرضية السلم في شمال شرقي سوريا في إعادة هيكلية مشروع سلمي- سياسي يحتضن ويحتوي هذا التنوع من الاندثار والفناء والتشرذم.
سرديات السلم المزعوم
النظام السوري الذي يتحرك تبعاً لمنطق التفوق العسكري المسنود من إيران والنظام الروسي، يستثمر صيغة (المصالحات والأمن) ضد المجتمع، بغرض تعميم نفوذ الدولة وإعادة صيغة السيادة القومية الأحادية ضد التنوُّع السوري، مستثمراً بذلك حاجة الناس لضمانات أمنية واقتصادية عقب تداعيات كارثية فرضتها التنظيمات المتطرفة على كاهل الناس طيلة اندلاع النزاع السوري. ثمَّة خدعة مفضوحة من قبل الحل الأمني الذي يقترحه النظام، إذ لا يستهدف هذا الحل (السلمي الأمني) في تصفية وجود التنظيمات المتطرفة التي تؤمن بالعنف في عموم البلاد فقط، بل يرمي من وراء ذلك إلى إعادة المجتمع الذي يئن تحت وطأة الأنقاض إلى حظيرته الأمنية، ومن ثم التحايل على الحلول السياسية التي تحمي وتصون كرامة المجتمع وإرادته السياسية.
قد تكون هذه الحلول ساعية إلى استعادة الأمن والسيادة في بعض المناطق، لكنها تزرع في الوقت عينه قنابل موقوتة في أحشاء المجتمع؛ وقابلية تفجير تلك القنابل احتمال وراد في أية لحظة، حالما تسنح لها ظروف مواتية. وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن هذا الحلّ هو مداومة الحرب بطريقة مغايرة ومستورة، وهو لا يمتُ بصلةٍ في فرضية غياب الحرب وفرض السلم المشرِّف الذي يصون هوية المجتمع وكرامته الإنسانية والسياسية.
في حين، تحاول التنظيمات المعارضة المسلحة والمتطرفة، والتي تعمل تحت إمرة تركيا في شمال سوريا، الترويج لنظرية السلم والأمن والاستقرار على غرار رؤية النظام السوري، غير أنَّها استحضرت كل ترسانة التفوق العسكري المسنود من الدولة التركية بغية تصفية مؤسسات المجتمع المحلي وهويته الاجتماعية وإرادته السياسية والأخلاقية، فهذا السلم المزعوم الذي مرّ على عفرين السورية، يحمل في طياته مخططات هندسة المجتمع بقوة العنف اللامحدود، ويقوم على وقع الإمعان في الإبادة والصهر المنظم ضد وجود المجتمع بأكمله. ووفقاً لهذه المقاربة نكون مجددا أمام استمرارية الحرب بكل فجاجتها الموغلة في القهر والهيمنة والموت.
تكمن تراجيديا التنوُّع السوري في أن يُتخذ من الطرفين اللذين لا يؤمنان بالحلّ السلمي على المستوى الداخلي ممثلين وناطقين باسمه في مؤتمرات السلم الدولية، مثل سوتشي- وجنيف، فإن كان هذا السيناريو، هو الحل السلمي الدولي الوحيد إلى هذه اللحظة. فكلا الطرفين يخوضان صراع دموي ضد إرادة المجتمع السوري المتنوِّع، ويتخذان من الضامن الدولي "الروسي- والغربي" داعماً في تحسين موقعهم في الهيمنة والنفوذ والتسلط، ويؤمنان بالحل العمودي العنفي الذي يفرض من الأعلى على حساب التنوع السوري، وكلاهما على استعداد تام بأن يحولا الضامن الدولي الحيادي المفترض إلى سند لتعميق الحروب الدولية على سوريا، وكلاهما يخوضان منذ سنوات لعبة الدسائس والخروقات العسكرية اليومية بغرض استدامة الهيمنة على المجتمع المحلي.
ثمَّة تراجيديا تُكتب باسم السلام الدولي المقترح والمزيف ترسم من قبل أطراف لا تؤمن أصلاً في إسكات صوت السلاح وآلة الحرب، ونموذج إدلب يشكل آخر فصول هذه التراجيدية التي تتماهى مع السخرية في آن معاً.
لكن ما هي الصيغة المطروحة من قبل هذه الاطراف التي تدعو ليلاً ونهاراً بوجوب إبرام وقف إطلاق النار وإطلاق العملية السياسية، وماذا ينشد المبعوث الدولي وهو يحاول تقريب وجهات النظر في عملية المحادثات الجارية مع هذه الأطراف؟ مجدداً يغدو التنوُّع السوري والاختلاف الهوياتي الثقافي هو الضحية الكبرى، فكتلة النظام تؤمن بسيادة القومية الأحادية، في حين ينشد الطرف الإسلامي المعارض في إعادة هوية الدولة- والفرد وفق أدبيات إيديولوجية إنغلاقية بالضدّ من بنية المجتمع السوري، بينما تهرع التكتلات الليبرالية التي لا تمت صلة بالواقع الفعلي المجتمعي في وجوب تحقيق انتصار وهمي عبر تعزيز مفهوم المواطنة والحقوق الفردية أمام جهاز الدولة دون إدراج النطاق المجتمعي المتنوع والعريض على أجندتها، وتالياً ثمة انقلاب ضدّ التنوُّع المجتمعي واختلافه كما هو القائم بصورته التاريخية المتجذرة، أي مواصلة الحرب بطريقة مغايرة ضد المجتمع.
السلم في شمال شرقي سوريا
بين هذه الصيغ المتداخلة والمتطابقة في نهاية المطاف، سيتمحور مشروع شمال شرقي سوريا، وهو يستعين برؤية المفكرة الألمانية "حنا آرنت"، في وجوب تمكين مفهوم "الصفح والتعهد" كصيغة أولية من أجل إخراج المجتمع من ويلات الحروب الداخلية، ويسعى في الوقت عينه إلى ضرورة حماية المجتمع وصون إرادته السياسية التعددية وفق التقاليد الثقافية والدينية والقومية التي تعزز السلم وتتقاطع مع المفاهيم الكونية المعاصرة الداعية إلى حماية المجتمع واختلافاته في مواجهة آلة الحرب المُدارة. وبهذا يدعو هذا الطرح إلى ترسيخ سلام مشرف مع الاحتفاظ بحقه في الدفاع الذاتي ضد محور الحرب القائم سواء داخل سوريا أو خارجها، لأنّ التخلي عن هذا الحق يعني تصفية الهوية السياسية والمؤسساتية لشمال شرقي سوريا التي حاربت التطرف والاستبداد بغرض إفساح الفضاء العمومي (المؤسسات والمجالس السياسية العامة) أمام الناس في التعبير عن هويتهم الثقافية المتنوِّعة، والتي كانت مقموعة ومقهورة من قبل التطرف واستبداد الدولة المركزية في الفترات السابقة. وما صيغة الهدنة المبرمة مع الجانب التركي مؤخراً بالوساطة الأمريكية إلا خطوة حيوية تؤكد على هذا الإصرار والتماسك الحيوي في حق الدفاع الذاتي.
أطروحة شمال شرقي سوريا في مفهوم الصفح، هي مقاربة ملحّة بُغية معالجة ذاكرة الناس. فبدون إدانة الإجرام الماضي إدانة عادلة من قبل المؤسسات القانونية المحلية لا يمكن طي صفحة الماضي عبر اللهث وراء فكرة النسيان الساذج والتسامح والعفو. الذين ارتكبوا الإجرام بحق الأفراد والمجتمع، يلزم إخضاعهم إلى العدالة القانونية وكشفهم أمام الرأي العام والضمير المجتمعي، مثل محاسبة عناصر "داعش" والتنظيمات الإرهابية التي تورطت في ممارسة الإجرام بحق التنوُّع السوري وأفراده.
يجري الصفح والعفو في حالات معينة تماشياً مع التوافق المحلي، بغرض تدشين مرحلة جديدة من آلية التعايش السلمي بعد إدانة الجرائم في المحاكم القانونية وكشفها أمام الرأي العام. أي أن الجرم في عملية الصفح لا يعاقب بطريقة فرض الموت، وإنما بطريقة تنصف ذاكرة المجتمع وتريح الضمير الجمعي والفردي.
بينما تشكّل صيغة التعهد وفق مشروع شمال شرقي سوريا، وجوب تحقيق تعهدٍ اجتماعي أخلاقي وقانوني، من أجل تجاوز آثار الماضي الأليم، وذلك عبر توحيد إرادة التنوُّع السوري المجتمعي من أجل بناء المستقبل. والوعد في هذه الحالة، يعني ضرورة تأسيس عقد اجتماعي جديد يتجاوز مفهوم السيادة عند الدولة القومية الأحادية وعلى هذا المنوال، سيكون بمثابة الصيغة الدستورية التي تحمي الحق القانوني والسياسي والديمقراطي للمجتمع الأفراد، والتعهد كما تقول حنا آرنت (بمثابة جزر من الأمان داخل المحيط في المستقبل اللايقين، علاقة الصفح والتعهد هو بمثابة العيش المشترك والفضاء العمومي المبني على احترام هوية المجتمع واختلافاته ومؤسساته القانونية والأخلاقية والثقافية).
في الواقع، تَنتقدُ صيغة شمال شرقي سوريا مفهوم السيادة التقليدية، الذي أصبح وسيلة احتكارية بيد الطغمة الحاكمة والمعارضة بغرض مصادرة حرية التنوع السوري تحت يافطة الحاجة والأمن. بدون ربط تلك السيادة بصيغة قانونية ودستورية جديدة في سوريا لا يمكن فك معضلة طلاسم حالة الحرب القائمة التي تضرب بنية المجتمع برمته. وهذا الأخير يمر عبر إفساح الفضاء العمومي أمام الناس في تحقيق مقولة الصفح والعهد الجديد، وإحلال هوية سيادية منفتحة ومرنة تحتوي على التقاليد الثقافية والدينية والقومية، وصيانة هوية المجتمع في إطار الإدارة الذاتية الديمقراطية كركيزة حيوية لحماية التنوُّع السوري ضد انتهاكات الدولة الشمولية والأصولية الإسلامية. حينها فقط وفقط، قد تٌطوى صفحة الماضي المؤلم من خلال الحل السياسي، بغرض إنشاء فضاء العيش المشترك وفق تعبير المفكر الفرنسي الراحل بول ريكور.