الاقتصاد والنظام السياسي

في ثورة البرلمان الانكليزي على الملك تشارلز الأول عام 1642، كانت هناك ثورة من تجار لندن ومدن الساحل الجنوبي، الذين اغتنوا وترسملوا بحكم سيطرة انكلترا على البحار وطرق التجارة العالمية منذ هزيمتها للإسبان في معركة الأرمادا عام 1588،على ملك يحكم بطريقة الحكم المطلق وقاعدته الاجتماعية موجودة عند الإقطاعيين وأغنياء الريف والكنيسة.

ضاق أعضاء البرلمان الذين تسيطر عليهم الرأسمالية ذات الطابع التجاري، واصطدموا لسنوات مع سلطة الملك، وأحسوا بأن هذا القميص السلطوي لا يناسب مصالحهم الاقتصادية ويجب استبداله ببرلمان يحكم مع ملك يملك، ولا يحكم ضمن نظام سياسي من الملكية الدستورية.

اصطدام البرلمان والملك قاد إلى الثورة التي أعقبتها حرب أهلية استغرقت سبع سنوات وانتهت بانتصار البرلمان وقطع رأس الملك.

وعادت الملكية وأبناء الملك المعدوم من المنفى الباريسي عام 1660، ولما حاولوا العودة للأساليب القديمة في الحكم المطلق انطلقت ثورة 1688-1689التي نجحت في إقامة نظام سياسي من الملكية الدستورية، كان مرآة للواقع الاقتصادي-الاجتماعي الجديد الذي ساد إنكلترا عبر طبقة رأسمالية وعلاقات برجوازية ترجمت نفسها في التشريعات والقوانين.

أصبحت  انكلترا منارة للفرنسيين على مدى قرن كامل من أجل إقامة حكم ملكي دستوري وكان هذا هو الهدف الرئيسي للثورة الفرنسية عام 1789 التي كانت تعبيراً عن أن الطبقة الرأسمالية قد أصبحت تدق بعنف أبواب القصر الملكي.

ولم تنجح البرجوازية الفرنسية فيما نجحت به نظيرتها الإنكليزية، لذلك لجأت لحلول قيصرية عبر نابليون بونابرت بعد قطع رأس الملك، وقد نجح نابليون في تطبيق الإصلاح الزراعي الذي هو إجراء رأسمالي وفي إدخال نظام إدارة حديث وفي مجال إطلاق الصناعة والبنوك.

وكانت إجراءات نابليون رأسمالية التوجه ولكن من قبل نظام سياسي إمبراطوري يحكم فيه رجل واحد، وكان هذا يعني افتراقاً بين شكلي الاقتصاد والنظام السياسي، فيما تطابقا في إنكلترا، وقد استمر هذا التناقض الفرنسي حتى عام1871 مع تأسيس الجمهورية الثالثة، لما تطابق شكل النظام الاقتصادي الرأسمالي مع نظام جمهوري رئاسي-برلماني مختلط تعزز مع  علمانية فصلت الكنيسة عن الدولة عام 1905.

وفي روسيا أراد ليبراليو حزب الكاديت (الديمقراطي الدستوري) إقامة ملكية دستورية على الطراز الإنكليزي، ولكن تبعية البرجوازية الروسية للدولة القيصرية وتبعية الأخيرة لبريطانيا وفرنسا، لم يتح للبرجوازية الروسية أن تسلك ذلك الطريق.

في مقال لينين “حول ثورتنا”، المكتوب عام 1923، يعترف القائد البلشفي بأن ظرف الحرب العالمية قد أتاح مجالاً لانطلاق ثورة أتاحت “لنا الشروع بتوفير المقدمات الأساسية للمدنية، على نحو غير النحو الذي نحته جميع الدول الأخرى في أوروبا الغربية.. لكي نتحرك فيما بعد للحاق بالشعوب الأخرى”.

وبالتالي فإن طريق أكتوبر الروسي 1917هو أولاً طريق تمدين وتحديث (وربما كان يفكر لينين برسملة تحت قيادة الشيوعيين وهو الذي قبل قليل بعام 1921 قد انتهج السياسة الاقتصادية الجديدة- النيب، التي كانت تعني شكلاً من اقتصاد السوق) على طراز الثورتين الإنكليزية والفرنسية ولكن بنظام سياسي مختلف هو نظام الحزب الواحد.

وفعلاً فإن الحزب البلشفي في الفترة التي انتهج فيها سياسة (النيب)،التي عنت تعددية اقتصادية، قام في المؤتمر العاشر للحزب في آذار/مارس 1921 بمنع الكتل في الحزب وقام بحظر الأحزاب الأخرى التي كان تركها كأمر واقع منذ منع انعقاد الجمعية التأسيسية في كانون ثاني/ يناير1918 التي لم يفز بها البلاشفة، وهو ما أنشأ وضعاً ازدواجياً، أي  تعددية اقتصادية متمثلة في اقتصاد السوق المتمركز في الريف وقطاع دولة في الاقتصاد تسيطر فيه السلطة على المفاصل الاقتصادية الأساسية، مع تشدد سياسي ووحدانية الحزب الواحد.  

كان هذا تناقضاً أدركه بعض البلاشفة، من حيث أن حزباً حاكماً، فقد قاعدته الاجتماعية التي كانت يوم الثورة ممثلة في الطبقة العاملة التي قتل مئات الألوف منها في الحرب الأهلية واضمحلت اجتماعياً مع خراب الصناعة، يجد نفسه ضعيفاً  أمام الفلاحين الذين أعطاهم البلاشفة الأرض عبر الإصلاح الزراعي وأعطاهم حرية السوق لبضائعهم عبر (النيب)، وهذا ما جعل الفلاحين أقوى اقتصادياً من قطاع الدولة في الاقتصاد.

أكثر من مثًل هذا الادراك كان أوجين بريوبراجنسكي، وهو عضو لجنة مركزية في الحزب البلشفي ومن المعارضة التروتسكية لستالين الذي كان متحالفاً مع بوخارين العراب الثاني للنيب مع لينين، في كتابه “الاقتصاد الجديد” الصادر عام 1926، الذي شدد على أن “الاشتراكية تنتصر في نظام مغلق من اقتصاد الدولة، وتتقدم ككل موحد مندمجة مع السلطة السياسية”.

 وأن “اندماج سلطة الدولة باقتصاد الدولة هو مصدر آخر من مصادر الثبات بالنسبة للشكل الاشتراكي”، في إشارة منه للتناقض بين سياسة (النيب) الاقتصادية ووحدانية سلطة البلاشفة السياسية، وداعياً إلى بدء البناء الاشتراكي من  خلال ما أسماه بـ “التراكم الأولي الاشتراكي” الذي يعني “تجميع الموارد المادية بيد الدولة جزئياً أو كلياً من مصادر تقع خارج جهاز الدولة الاقتصادي”، وكان هذا يعني إنتاج فائض قيمة من خلال تحديد أسعار إلزامية للإنتاج الفلاحي والانتاج البضاعي الصغير والقضاء على حرية السوق لهما التي ضمنتها (النيب).

ستالين ومن خلال سياسة التجميع الزراعي (الكلخوزات) في فترة 1929-1932 طبق ما قاله بريوبراجنسكي عن توحيد “سلطة الدولة باقتصاد الدولة”، ولولا سياسة الكلخزة التي عنت إجبار الفلاحين على تسليم منتجاتهم للدولة وإجبار ملايين منهم للتوطن في المدن ليكونوا عمالاً صناعيين، ما كان الاتحاد السوفياتي على الأرجح ليصبح دولة صناعية متقدمة وأن يصمد عسكرياً أمام الهجوم الألماني عام 1941.

لذلك، عندما انهار الاتحاد السوفياتي عام1991، كان هناك ترافق لانهيار نظام (الحزب الواحد السياسي) مع انهيار نظام (قطاع الدولة في الاقتصاد) ونشوء لـ (الديمقراطية السياسية) بالترافق مع (اقتصاد السوق).

يحاول الحزب الشيوعي الصيني تفادي معادلة بريوبراجنسكي منذ الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ عملياً عام1987، من خلال المحافظة على سيطرة (قطاع الدولة في الاقتصاد)على القطاعات الاستراتيجية في الاقتصاد ومن خلال سيطرة البنك المركزي على العملية النقدية- المالية، مع ترك العملية الاقتصادية الباقية لقوانين اقتصاد السوق أمام الرأسمال الأجنبي والمحلي وأمام حركة السلع المنتجة داخلياً وخارجياً.

وتترافق هذه التعددية الاقتصادية مع وحدانية سياسية تتمثل بسيطرة الحزب الشيوعي ومنع التعبيرات السياسية المضادة مثل حركة الطلاب التي قمعت دموياً عام 1989.

يدرك الشيوعيون الصينيون بأن تفادي معادلة بريوبراجنسكي هي التي سمحت  عام 2010  ببلوغ الصين المرتبة الاقتصادية الثانية في العالم، ولكنهم لا يعرفون إن كانوا يعون بأنه لا يمكن لمدة طويلة من الزمن استمرار الافتراق بين شكل النظام الاقتصادي، الذي هو رأسمالي تعددي يجمع رأسمالية الدولة مع اقتصاد السوق، وشكل النظام السياسي المتمثل بوحدانية الحزب الشيوعي، وأن أحدهما سيتغلب ويخضع الآخر كماؤفعل ستالين عام 1929، وأن ضربة 1989 الصينية ليست أكثر من مسكن موضعي لن تمنع من أن تكون الصين في المستقبل ليس البعيد أمام أحد الخيارين: إما التخلي عن الوحدانية السياسية لتتناغم مع التعددية الاقتصادية أو الحل الآخر الذي انتهجه ستالين عام1929عندما أخضع العملية الاقتصادية برمتها لسلطة الدولة السياسية.

وفي سوريا، منذ المرسوم 10 عام 1991 وبالذات منذ 2004، يتم انتهاج سياسة قريبة من الطريق الصيني، حيث مازال رجال الأعمال من صناعيين وتجار ومصرفيين لا يملكون الاستقلال الاقتصادي ومازالوا سياسياً تحت خيمة السلطة السياسية والتي مازالت تملك احتكار القرار السياسي وتسيطر على مفاصل العملية الاقتصادية.في مصر هناك حالة شبيهة بالحالة السورية ولكن بشكل أخف.

في دولة مثل تشيلي بعد انقلاب 1973 ضد الحكم اليساري بقيادة سلفادور أليندي وجدت ديكتاتورية عسكرية يمينية مع ليبرالية اقتصادية متطرفة  بمشورة الفيلسوف الاقتصادي لليبرالية الجديدة الأميركي ميلتون فريدمان، ولكن منذ عام 1989 توحدت الليبرالية الاقتصادية مع الديمقراطية السياسية بعد زوال الديكتاتورية العسكرية، والآن فاز مرشح يساري بالانتخابات الرئاسية في  تشيلي، وهو قال العبارة التالية: “كانت تشيلي مهد الليبرالية الجديدة وستكون مقبرتها”، ولكن بالتأكيد لن يقيم الرئيس التشيلي الجديد نظاماً من الوحدانية السياسية مع نظام من الوحدانية الاقتصادية ولن يستطيع حتى لو أراد.