عمائم الكرامة وعمائم الهوان

شهدت سوريا قبل أيام الانتخابات التي أعادت تدوير الرئيس السوري بشار الأسد لفترة جديدة، أزمة قاسية في الأخلاق، وامتحاناً لقادة المجتمع في كلمة الحق والثبات على المبدأ.

كل ما جرى كان عادياً ومتوقعاً ولم يكن فيه جديد، فالشعب يفعل ما يؤمر، وسيقول بعد كل هذا العناء والخراب والهوان إنه مشتاق لاستمرار الوضع الحالي بكل ما فيه من قهر وظلم أجبر نصف السكان على الخروج إلى اللاوطن، ولكن المشهد الأكثر إيلاماً وحزناً كان مشهد العمائم التائهة التي رقصت في هذا الكومبارس الحزين، دون وعي بالدور الأسود الذي تمارسه في حق رسالتها وعمائمها ومبادئها.

العمامة شعار إسلامي، يفترض أن ينطوي تحتها الصدق والأمانة والإخلاص والفضائل، وأهم ما في العمامة من قيم الإخلاص والفضائل هو وجهها الروحاني.

حين يشعر المسلم بالضعف والوهن يفترض أن يرى في هذه العمائم القوة والعزيمة، والإرادة الصلبة والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، ولكن هذه القيم كلها ستتبدد في لحظة واحدة حين يشاهد المسلم قدوته ورايته وهي توحل في خطايا السقوط الأخلاقي والاجتماعي، وتمارس ما يطلبه المستبد وتضيف عليه من عندياتها مزيداً من التفاعل والإنهاك والهوان، ويجعل كل ما رواه الشيخ على المنبر من فضل كلمة الحق والثبات على المبدأ والصدق في القول وغيرها من القيم الفاضلة في مهب الريح.

يقوم الدين على مبدأ: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.

ولكن هذه القاعدة الحزينة منيت بأفظع تشويه في الأيام الأخيرة حين ظهرت العمائم فوق جراحات السوريين وآلامهم وعذاباتهم، لتهتف بالصوت الملآن للانتخابات المسرحية، التي لا يمكن لأحد أن يصدقها وباتت صورة الانتخابات الأليمة كارثة على سماء السوريين وأحزانهم وآلامهم.

لم ينكروا المنكر باليد، ولم يطلب أحد منهم ذلك، ولم ينكروه باللسان أيضاً ولم ينكروه بالقلب، ولم يكتفوا بذلك بل راحوا يهتفون ويصرخون ويؤيدون كل ما ارتكب من مالمّ خلال السنوات العشر الدامية ويطالبون بالاستمرار في سياسة القمع والتمزيق لأواصر الوطن السوري.

فإذا كان التسبب في قتل نصف مليون وتشريد عشرة ملايين وتدمير وطن بأكمله وموت الآلاف تحت التعذيب إذا كان هذا كله ليس منكراً فلا يوجد منكر في الدنيا.

الكارثة أنهم لا يعرفون المنكر إلا إذا كان كأس خمر أو سفور امرأة أو صيام حائض، أما جرائم الإبادة بالكيماوي وتمزيق البلاد والحياة فهي مما يراه المستبد وفريقه لوناً من الاجتهاد المأجور قام به حاكم صالح له أخلاق إلهية!!

لا أعتقد أن أحداً أساء إلى شرف مهتنه كما أساءت هذه العمائم، فقد انقلبت على مبادئها رأساً على عقب، وبررت الكذب والدجل والتزلف تحت ستار الحكمة، واتقاء شر الظالم، وهي ممارسات تقع في جوهر العدوان على المبادئ التي يقوم عليها الدين كله.

ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظموه في النفوس لعظما

ولكن أهانوه فهــــــــــان ودنسوا **** محياه بالأطماع حتى تجهما

العمامة مطالبة أن تنشر آلام الناس وعذاباتهم، لا بركة في العمامة إذا لم تشعر بعذابات المسجونين وأنينهم، ولا بركة في العمامة إذا لم تشعر بشراد عشرة ملايين سوري فقدوا أملهم وحلمهم وحياتهم وتاهوا في المجهول بسبب سياسيات خاطئة، ولا بركة في العمامة إذا لم تدرك أن البطش الذي مارسه النظام أدى إلى تدمير سوريا وتقسيمها ودفن الآلاف تحت الأنقاض، ولا بركة في العمامة إذا لم تر البراميل التي نزلت على رؤوس الناس وحطمت حياتهم وآمالهم.

حق على من يصعد المنبر … أن يترك الفحشاء والمنكر

ويحسن القول الذي قاله… ويحسن السر الذي أضمر

لا يطلب من الناس أن يكونوا جان دارك ولا أن يحملوا أكفانهم ونعوشهم ويخرجوا في مواجهة الظالم، ولكن على الأقل إنكار القلب، وهو أمر ممكن تماماً حتى في أشد أحوال الاستبداد، وربما يتسبب في خسارة بعض الوظائف أو الامتيازات وما أهونها من خسارة إذا كان غايتها حماية القيم والأخلاق والمبادئ.

باسم المداراة خلقنا جيلاً بوجهين ولسانين ومنطقين، وهدمنا في نفوس الناشئة روح الفضيلة وقيمة الصدق، ولا كرامة لدين ولا فضيلة حين يتم تبرير الكذب والمداهنة.

قالوا يا رسول الله: أيسرق المؤمن؟ قال: قدر الله وما شاء فعل

قالوا: أيزني المؤمن؟ قال قدر الله وما شاء فعل

قالوا: أيكذب المؤمن؟ فغضب رسول الله وقال: إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون.