غزة درس الدم.. مراجعات من فلسطين وكردستان

أعلن أمس عن وقف العدوان على غزة، وجاء صباح جديد للأمل، ومع أنني متضامن للغاية مع الشعب الفلسطيني المظلوم ولكنني لا أستطيع أن أسمي ما جرى انتصاراً تقرع له الطبول، بقدر ما هو نهاية مأساة متوحشة دمرت البلد المحاصر ودفعت إلى الموت المئات من الأبرياء الذين لا شأن لهم أصلا بصناعة الموت.

لا أكتب هنا في السياسة وإنما أكتب في الإنسان، الإنسان الذي تتدمر حياته كل يوم، على الرغم من ركام المعاهدات والاتفاقيات والمصالحات والصفقات التي تجري حوله كل يوم دون أن تمنحه الأمن والسلام والحرية والعدالة.

لا أنظر إلى فلسطين كمسجد وكنيسة وهيكل، فهناك ثلاث رؤى لاهوتية متناقضة بالمطلق في الوعي بهذه الأرض المقدسة، مدينة السلام التي لم تكد ترى السلام في تاريخها، ودخلت أتون الحرب المستمرة منذ مائة عام بلا توقف.

أنظر إليها كإنسان وأشارك أهلها عذاباتهم وقهرهم ومعاناتهم، واعتبر نهاية هذه الموجة المتوحشة فرصة مناسبة للمراجعة والتأمل في معنى هذا العذاب الذي يعانيه الشعب الفلسطيني من القهر والحصار والحرمان والذي ينفجر حرباً شاملة كل عدة سنوات.

بعيداً عن خطاباتنا وشعاراتنا فإن العالم مدعو الآن لفهم ما يحصل في فلسطين، وهو بالضبط الصورة الأكثر شبهاً مع المعاناة الكردية خلال قرن كامل من الكفاح والعناء والصبر.

لقد اجتمع الكبار في “سايكس بيكو” قبل مائة عام ورسموا خريطة المنطقة، تحت إشراف مباشر من بلفور، وكان لديهم ألف دليل ودراسة حول صواب ما رسموه، واعتمدوا بشكل دقيق على القانون الدولي وعصبة الأمم، ودراسات الخبراء، ورأوا أن من العقل والمصلحة حشر الشعب اليهودي التائه في هذه الأرض التي يعتبرها اليهودي الأرثوذكسي أرض ميعاد، وبذلك يخلصون أوروبا من وجود خطير يؤرق مجتمعاتها، وبدا أن العالم بإمكانه أن يحقق ذلك دون رصد موازنة مرهقة فاليهودي يملك المال الكافي للإنفاق على مشروعه، وهكذا يمكن إدراج المشروع في برامج الدول الكبرى دون إضافة رهق على خزائن المال.

ولكن الجانب الذي كانوا يحتاجون دراسته هو الإنسان، الإنسان صاحب الأرض الذي ستطبق عليه هذه الرؤية، وهو ما اعتبره المخططون آنذاك جاهلاً وانفعالياً وغير قادر على تدبير مصالحه، وهكذا فقد تجاهلوه ولم يستمعوا إلى عذابه ومعاناته، ورضوا إرادة المجتمع الدولي بقوة الحديد والنار.

ولكن بعد مرور أكثر من قرن على وعد بلفور، لا زال المشروع مراً بطعم الظلم على الإنسان الفلسطيني، ولم يستطع أحد أن يقنعه بترك بيته وداره وأحلامه لمصلحة المشروع الحضاري الموعود في الشرق الأوسط، وظلت كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو شأنا حكومياً خالصاً، لا يعني الشعوب الغاضبة، التي باتت تنفجر كل يوم في غضب ماحق، أقرب إلى الانتحار منه إلى المقاومة، فالشعور باليأس يجعل الانتحار فضيلة والتهور بصيرة والموت والحياة سواء.

لقد مات كل الذين كانوا يحملون مفاتيح بيوتهم في فلسطين ولكن أحفادهم جاؤوا على نسق أشد غضباً وتصميماً، وباتوا أكثر قدرة وعزيمة على خوض الحرب من جديد على الرغم من تحول المشهد الدولي برمته، واعتراف العالم بإسرائيل وعجزه عن الاعتراف بفلسطين.

ربما تبدو الحلول الدولية عادلة من وجهة نظر السياسي الضليع في القانون الدولي، ولكن هذه العدالة لم تتحقق على الأرض، ولم تصل إلى الفلسطيني الغاضب، ولم يؤمن يوماً بأنها تحمل في جوانحها بريق عدالة.

الظلم لا يخلق سلاماً، الظلم يقمع ويقهر، قد ينجز هدوء أيام وأسابيع، ولكنه يعيد إنتاج الغضب بصورة أكثر لهيباً وهولاً وجحيماً.

الأمر نفسه يمكنك أن تراقبه كل يوم في مظالم الكرد في جبال زاغروس، وسفوحها التاريخية في أرض كردستان، حيث قرر الكبار قبل مائة عام أن المنطقة لا تحتمل ترف الاعتراف بحقوق كردية، وأنها مجرد أوهام وطموحات فردية ستنتهي مع قيام الدولة الحديثة، ورسموا للمنطقة سايكس بيكو ظالمة لا تعترف للكرد بوجود ولا حقوق.
والنتيجة اليوم بعد مائة عام هي النتيجة إياها، فقرارات الكبار لم تقنع الشعوب المظلومة في شيء، وظل الكردي يكافح من أجل الحياة والكرامة، ولم تقنعه قرارات الكبار في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وظل الكردي غاضباً يبحث عن مكان له تحت الشمس، ولم يبال غضب الكبار والصغار.

تماماً كما يحمل الفلسطيني مفاتيح بيته في صفد وحيفا ويافا، يحمل الكردي نوروز كردستان وجراح كاوا وزيتون عفرين ويتحدث للعالم عن حرمان شعب مزقته يد السياسة بين الأمم، وطالبته بالخضوع للقانون ولكنها ألقته بين ثلاث قوميات متعصبة فارسية وطورانية وعربية، ولكل منها مشروعه وبرامجه المتناقضة المتناحرة، فيما تم إبلاغ الكردي بأن عصر القوميات قد انتهى ودخلنا في عصر المواطنة وأن المطلوب فقط هو السمع والطاعة!.

العدالة وحدها هي التي تنهي المأساة، العدالة ليست ندوات في القانون الدولي، ولا بيانات تطلقها الدول بالوقوف إلى جانب الشعب المظلوم، العدالة هي ببساطة أن يشعر الإنسان بكرامته وإنسانيته، وأن يتساوى الناس في الحقوق والمسؤوليات، وأن يبنى وطن لا شوفينية فيه لقومية على قومية ولا لدين على دين، ويكون الناس فيه سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على أعجمي ولا ليهودي على فلسطيني إلا بالتقوى والعمل والصالح.

لا يوجد سلام في فلسطين طالما ينص دستور الدولة اليهودية على فضل دين على دين، ولا يوجد سلام في الدولة العربية طالما نص دستورها على فضل قومية على قومية، العدالة تقتضي أن تغيب إلى الأبد ثقافة شعب الله المختار، وثقافة العرق الأزرق، وتحل مكانها ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان.