مخيم الهول.. أجساد مقهورة وأفكار منشورة

لا أدرى من أين اكتسب هذا المخيم الرهيب تسمية مخيم الهول؟ وبغض النظر عن الأصل فإن اللفظة هي في الواقع التسمية الأدق لما يجري في هذا المكان المنكود المبتلى بأشد نكد الدهر وقسوة الزمان.

ولا أعتقد أن قرائي يحتاجون من يشرح لهم أن هذا المخيم هو المكان التعيس الذي تم اختياره ليؤوي عائلات عناصر “داعش” الذين أحرقوا البلاد والعباد وقاموا بتفجير أبشع مرحلة توحش في تاريخ سوريا، وانتهوا نهاية مأساوية وباتوا في المقابر أو السجون فيما تركوا من خلفهم ذرية ونساء يزيد عددهن عن سبعين ألف كائن حي.

وتشير التقارير الأخيرة أنه لا زال في المخيم نحو 52 ألف لاجئ، في منطقة الهول على المثلث الشرقي مع الشدادي والحسكة.

بالطبع لا أريد أن أقدم تقريراً صحفياً، ولا حاجة لمزيد من التقارير ولكنني أريد أن نقف وقفة تأمل ومراجعة بعد هذه الكارثة الإنسانية الفظيعة، بعيداً عن نظريات المؤامرة التي لن تقدم أي جواب لتمسك هؤلاء النسوة بالأفكار الداعشية بكل تفاصيلها وكأننا لا زلنا تحت حكم أمير المؤمنين البغدادي وخلافته التي أعلنها على منهاج النبوة.

ولكن كل التقارير تتحدث عن شيء واحد هو أن الداعشيات لا زلن يحملن الإيمان العميق بصدق مشروعهن والثقة الكاملة بانتصاره، والدكتورة في الشريعة إيمان البغا أم مظفر الدمشقية الأكاديمية السورية التي هاجرت من عملها الأكاديمي في جامعة الملك فيصل بالسعودية إلى الرقة وبايعت أمير المؤمنين ترفض أن تخرج من مخيم الهول وتعلن أنها على يقين بنصر الله لدولة الخلافة الإسلامية الراشدة، ولا شك أن هناك الآلاف في المخيم يحملن الأفكار نفسها.

وفي التقارير التي كانت تقدمها الحدث للمذيعة الجسورة رولا الخطيب كنا نلاحظ نظراتهن والتحدي الطافح الذي حملنه للمذيعة ولمن أرسلها وللحكومات التي تدير هذه القناة وأمثالها وللجمهور الذي يتابعها ويصدقها، وحين كانت الفتاة تحدثهن كن يضعن أصابعهن على العنق في إشارة إلى الذبح القادم وهو وعد داعش لكل من يرفض حاكمية الله، والتي من أبرز معالمها نقاب النساء وعزل المرأة وتلفيحها بالسواد.

والآن: هل يمكننا بعد خمس سنوات من الصدمة أن نفسر بشكل دقيق ظهور “داعش” وقيامه؟.

أولاً: يجب القول إن “الدواعش” في معظمهن من المجتمع المحلي، والوجود الأجنبي فيهم قليل، ومع أن الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا تطالب 52 دولة في العالم باستلام رعاياها فإن الواقعي أن نقول إن هذه الدول ليس لها في المحشر “الداعشي” أكثر من خمسة آلاف امرأة وطفل فيما يتوزع السبعة وأربعون ألفاً بين سوريات وعراقيات وأردنيات.

ستخرج “الداعشيات” وأبناؤهن من المعسكر البائس، فلا أحد يريد أن ينفق عليهم إلى الأبد، وكثير من النساء لا يمكن أن تنسب لهن جرائم مباشرة، وغاية الأمر أنهن قدمن مع أزواجهن في إطار مشروع انقلابي متوحش، يعتقدن أنه مشروع الله وأنبيائه وملائكته على الأرض.

ولكن السؤال الذي نطرحه هنا، لقد أدت الحرب الطاحنة بتعاون المجتمع الدولي إلى انهيار التنظيم وتبخر زعمائه، ولكن هل تبخرت أفكار “داعش” وآرائه ومنطقه؟.

قناعتي أن “داعش” لا زال في مناهجنا، ومن الغباء أن نفصل بين ما نعلمه ونتعلمه وبين الممارسات المتوحشة التي قام بها “الدواعش”، ونفضل أن نقول إنها مؤامرة إيرانية أو إسرائيلية أو أميركية، فهذا التعليل بالمؤامرة هو أريح الحلول وهو يعفينا بالكامل من مسؤولياتنا في مراقبة ثقافة الكراهية.

كمثال من أقرب الأمثلة وأكثرها وضوحاً فوزارة الأوقاف السورية التي تصدر البيان تلو البيان أنها تحارب التطرف لا تزال تدرس في مدارسها كتب التطرف بكل تفاصيله، وكأنه لم يحصل شيء.

وحتى أكون دقيقاً فإنني سأضرب مثالاً واحداً مما يتم تدريسه اليوم في مؤسسات تعليمية رسمية تحظى بثناء النظام ومباركته.

في كتاب الشيخ مصطفى البغا وهو بالمناسبة والد إيمان البغا، يقدم الشيخ المواقف النهائية في الفقه الإسلامية في كتاب مرتب منظم باسم الفقه المنهجي، وفيه نتابع الفتاوى النهائية التالية:

أولاً: حكم النقاب:

في ج 1 ص 16 ينص الكتاب على وجوب تغطية المرأة لسائر جسدها ووجهها وسائر البدن أعاليه وأسافله

ثانياً: في حكم تارك الصلاة

وفي ج1 صفحة 103 يبين حكم تارك الصلاة بقوله: تارك الصلاة إما تركها كسلاً أو جحوداً، فإن تركها جحوداً فقد كفر قطعاً، ويستتاب ثلاثة أيام ثم يقتل كافراً مرتداً ولا يجوز أن يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين!!

أما إن تركها كسلاً فإنه يؤمر بأدائها من قبل الحاكم فإن أقامها نجا، وإن رفض قتل حداً لا كفراً، فهو مسلم يصلى عليه ويغسل ويكفن ويدفن في مقابر المسلمين.

ثالثاً: حكم الردة

وفي ج8 ص 105 كتاب الحدود، يأمر المؤلف بقتل كل مرتد، ويخصص فصلاً خاصاً لتعريف المرتد فيقول بالحرف: “أن ينطق بقول يتنافى مع التزامه الإسلام، سواء صدر ذلك عنه اعتقاداً، أو عناداً، أو استهزاء؛ …….. أن يقول مثلاً: الإسلام لا يتلاءم مع الرقي الإنساني، أو الخالق غير موجود، أو الزكاة تتنافى مع المجتمع الاشتراكي، أو أن إلزام المرأة بالحجاب مظهر من مظاهر التخلف.

فمثل هذه الأقوال مستوجبة للردة، سواء كان الدافع إلى النطق بها اعتقاداً، أو غضباً، أو عناداً…. ولو كان لمجرد إثارة الضحك وأسباب اللهو والسخرية: كمن يقول لزميله الذي يعظه: إذا دخلت الجنة غداً فأغلق الباب خلفك، ولا تدخلني معك”!!!!.

هكذا بكل بساطة يجب أن تحكم بالردة الموجبة للقتل على من تظهر منه هذه الأشياء أو الأقوال، وهي أقوال تتكرر في حياتنا اليومية مئات المرات، ويكررها الناس عارفين أن رحمة الله تسع كل شيء وأن الله لا يؤاخذ باللغو في القول، ولكن مشايخنا يصرون أن هذه الألفاظ موجبة للقتل سواء ظهرت جداً أو هزلاً أو اعتقاداً، أو غضباً، أو عناداً.

لا أعتقد أنني بحاجة لمزيد من البيان، فالأمر واضح كالشمس، وأسجل ذلك على الرغم أنه ليس بيني وبين آل البغا الشيخ مصطفى وابنيه الكريمين إلا كل خير، وأعتبر الشيخ مصطفى أقوى مشايخ الزمان اليوم في علم النقل والرواية.

ولكن هل يكفي أن ننقل من التراث بأمانة وأن نروي ما قاله الأقدمون بدقة؟ وهل يمكن لمفاهيم كهذه أن تبنى في ظلالها الأوطان.

وإذا كان هذا هو حقاً الفقه الإسلامي فإن المسؤولية الأخلاقية والحقوقية على من يختاره الناس لحكمهم أن يقوم بمواجهة ضارية مع هذا الفهم الخطير، واستبداله بقيم تؤكد قيم العدالة والرحمة في الإسلام.

إنني لا أتحدث هنا عن نصوص طبعت قبل ألف عام، إنني أتحدث عن نصوص طبعت عام 2021 بإشراف الدولة السورية، والأسوأ من ذلك كله أن يعتبر الكتاب مرجعاً أساسياً في الفقه لدى الحكومة السورية التي تثبت كل يوم أنها غير معنية على الإطلاق بالتنوير إلا بقدر ما يقدمه لها من تبرير لسلوكها المتوحش في قمع الشعب وإذلاله.

لا أشك أن تقديم هذه المعلومات سيكون صادماً، وربما يكلفني رهقاً، ولكنها الحقيقة، ويجب أن أقول إننا لم نفعل شيئاً لمواجهة التطرف “الداعشي” فإذا كانت نساؤهم محجوزات في مخيم الهول، فإن مناهجهم تدرس في المدارس الحكومية الرسمية بإشراف وزارة الأوقاف، وتعتبر الموقف النهائي للإسلام، أما أولئك الفقهاء من علماء الشريعة الذين يرفعون أصواتهم برفض هذه المناهج وخطورتها ويقدمون البدائل الإسلامية الحضارية فإنه تتم مطاردتهم ومحاكمتهم وتشريدهم في الأرض بتهمة إضعاف الشعور القومي وتوهين نفسية الأمة!!.