أبعد من حماية آبار النفط

على عجلٍ فسّرت وحلّلت طائفة من معارضي وموالي النظام السوري تصريح البنتاغون المقتضب الذي أشار إلى أن أولويّة القوات الأميركية لن تكون حماية آبار النفط، إذ جاءت تفسيرات الطرفين وتحليلاتهما رغبوية ومتمركزة حول نقطة واحدة وهي أن الأكراد لا يتعلّمون من دروس الماضي وأن الولايات المتحدة ستخذلهم في وقت قريب قادم، وإلى آخر هذا الوعظ الممزوج بالتشّفي، لكن التصريح التالي والذي يمكن اعتباره مفسّراً للتصريح الأوّل أوضح أسباب بقاء القوات الأميركية وربطها بمحاربة تنظيم داعش وعدم تمكينه من السيطرة على آبار النفط، وفق ما أعلنته المتحدثة باسم وزارة الدفاع الأميركية، جيسيكا مكنالتي.

وبدت مسألة حماية آبار النفط أقرب إلى الحجّة التي رفعت الحرج عن الرئيس الأميركي السابق، ترامب، الذي أصرّ على سحب قوّات بلاده من سوريا بشكل نهائي، ليستوي التوافق فيما بعد على الإبقاء على مئتي جندي فقط ولغرض حماية الآبار بدل فكرة الرئيس المتهوّرة بسحب كامل الجنود، لكن قبل أن يلملم الرئيس حقائبه صرّح مبعوثه إلى سوريا، جيمس جيفري، بأن عدد القوّات الأميركية يفوق مئتي جندي بكثير، في إشارة إلى إخفاء بعض المعلومات عن الرئيس، وبطبيعة الحال كشف البنتاغون مؤخراً عن عدد القوّات الذي يبلغ 900 جندي، فيما يرتفع العدد وينخفض تبعاً لإيقاع العمليات العسكرية.  

والأرجح أنّ بقاء قوات التحالف سيعني إمكانية إعادة تموضعها في شرق الفرات بدل حالة الانزواء في مناطق ضيقة، والإشارة إلى هذا الاحتمال مبنية على عدم الارتياح الأميركي من الدور الروسي، ومن التشبيك الحاصل بينها وبين الإيرانيين في دير الزور، ومن إفساحها المجال لتركيا للضغط على قسد في عين عيسى والرغبة في السيطرة على طريق M-4، ولعل العودة إلى العنوان الأوّل الذي غطّى الوجود الأميركي “محاربة داعش” عصيّ على الإنكار روسيّاً، ذلك أن روسيا وقوات النظام تكبّدت خلال الأشهر القليلة الماضية خسائر على يد تنظيم داعش في البادية السورية.

وتستشعر تركيا أكثر من بقية الأطراف جدّية استدامة التواجد العسكري الأميركي واستمرار التحالف بين واشنطن وقسد، لكن مسألة رغبة تركيا في مقايضة منظومة S-400 الروسية بتراجع الولايات المتحدة عن دعم قسد، تكشف مسألتين غير متصلتين تريد أنقرة ربطهما ببعض، الأولى أن تركيا واثقة إلى حد بعيد من استمرار التحالف بين واشنطن وقسد، والثانية أن المحاسبة على اقتناء المنظومة الصاروخية الروسية باتت وشيكة، لذا يصبح ربط التخلّص من أسلحة كلّفت خزينة الدولة مئات ملايين الدولارات بمسألة التخلّي عن قسد محاولة يائسة للوصول إلى حلّ يحفظ للنظام التركي ماء وجهه، لكن واقع الحال يشير إلى أنّ واشنطن ليست في وارد الدخول في صفقة كهذه، حيث أن سيف العقوبات الأميركية قد يدفع الأتراك للتخلّص من المنظومة الروسية، ودون أن تدخل في تسوية أو صفقة ما من داعٍ لها.

وبالعودة إلى مسألة التصريحات الأميركية، فهي في جوهرها تمثّل صيغة من صيغ ردّ الاعتبار لقسد وحاضنتها الشعبية، ذلك أن الرئيس ترامب صوّر مسار التحوّل الكبير في شمال وشرق سوريا ولخّصه في “حماية آبار النفط” ولعل تحلّق القوات الأميركية حول تلك الآبار وتصوير قسد بأنّها جزء من عملية حماية النفط ليس إلّا صيغة مَثّلت أفظع صور الترامبية وأعظمها رخصاً، إلى جانب تَرك قسد وحيدةً في مواجهة عمليات بربرية في ريفي رأس العين وعين عيسى، لكن المسألة التي قد تمثّل ذروة التحالف بين واشنطن وشمال شرق سوريا قد تكون في افتتاح ممثّلية دبلوماسيّة أمريكية تتبعها أخرى فرنسية ثمّ ممثّليات لدول أخرى على اعتبار أن مناطق الإدارة الذاتية جزء من سوريا وتصلح لأن تكون مستقرّاً للممثّليات الأجنبيّة، وبذا يتحقّق شيء من الاعتراف بالإدارة وقسد وجزء من الشعب السوري.

ولم يختر أكراد سوريا، وكذا عرب شرق الفرات وسريانها، الولايات المتحدة دوناً عن حلفاء آخرين، وهي بدورها لم يكن أمامها طيف واسع من الاختيارات حتى وقع اختيارها على قسد، وحدها الصدفة المحضة، أو بمعنى أكثر تحديداً، وحده ظهور داعش وضع الطرفين في خندق واحد، وعليه ليست المسألة مرتبطة بحب أو علاقة وجدانيّة. تبادل المصالح وليس وحدتها يقود هذا التحالف ليصبح أكثر تماسكاً؛ فبمعزل عن مصالح الولايات المتحدة ليس أمام شمال وشرق سوريا مروحة خيارات، ويكفي أن يلحظ المراقب تهافت اللاعبين على الساحة السورية  واستعجالهم الوقت للحلول مكان الولايات المتحدة دون إبداء الاحترام للقوّات المحلّية وتضحياتها، إذ سيّرت روسيا وتركيا دورياتهما على طول الشريط الحدودي وحاولتا التضييق على قسد وسحب سيطرتها على الطرق الرئيسية، فيما فشلت محاولات التفاوض مع دمشق التي أبدت بدورها كل برود إزاء مطالبات قسد، بل إنّها أصّرت على الحل الذي يناسبها وهو تسليمها المنطقة، هكذا ببساطة: تسليمها!

وفي أيّ حال لم تعد شرق الفرات تنوس أمام احتمالات حصول تغيّرات كبيرة تفضي إلى حروب أو معارك كالتي وقعت خلال السنوات الفائتة، أقلّه في المدى المنظور، وأما مسألة حمل الولايات المتحدة على الانسحاب بضغوط تركيّة أو روسيّة تبدو أقرب إلى محاولات عبثيّة، أقلّه في المدى المنظور.

ولعل استمرار الأوضاع في هذا الثبات مع تطبيق حزمة إصلاحات داخلية سيساهم في وضع الإدارة الذاتية في مكانها المناسب وهو أن تكون جزءاً من الحل السوريّ العام، بدلاً من الإصرار على استبعادها وتهميشها.

ففي أفق تصريحات الإدارة الأميركية الأخيرة يمكن قراءة أشياء أخرى، أبعد من قصّة “حماية آبار النفط” المملّة وغير المقنعة.