معارضة الاستبداد

لم تقدّم المعارضة السورية لحدّ الآن تعريفاً محدداً، أو توصيفاً دقيقاً لطبيعة الاستبداد في سوريا. وعوضاً عن ذلك انشغلت بمحاربة المستبد أكثر من اهتمامها بواقع الاستبداد وتغييره. هكذا أهملت هذا الموضوع بصورة شبه تامة تحت صخب وضجيج الشعارات العنصرية والطائفية والرغبة في الانتقام المذهبي. ولهذا السبب أيضاً فشلت حتى الآن في إنتاج خطاب بديل في الديمقراطية والمواطنة المستنيرة، خطاب (ضد الاستبداد)، يرقى إلى مواجهة خطاب سلطة الاستبداد ومزاعمها في (محاربة الإرهاب).

إن شخصنة الاستبداد سياسياً من شأنها أن تجعل قضية التغيير الديمقراطي، مسألة انتقام فردي ضد الطاغية وتبديل الفرد الظالم بآخر تحت عناوين مختلفة فحسب، مع الإبقاء على نظام الاستبداد برمّته، ودون أن يحدث ذلك أيّ تغيير جوهري في بنية الاستبداد نفسه. وهذا الموقف يُبقي الاحتمال قويّاً ومفتوحاً أمام عودة مستبدٍ من نمط آخر.

إن ما يقف عائقاً أمام حرية الأفراد ليس هو المستبد نفسه، إنما هو نظام الاستبداد بالذات. وما يضمن المساواة والعدالة للأفراد هو ليس الحاكم العادل أو المستنير، إنما النظام الديمقراطي. فالرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لم يكن يختلف كثيراً، في ميوله الشخصية وسلوكه وطبيعة تفكيره السياسي عن أيّ مستبد مهووس في الشرق الأوسط، ولكن ما منعه من أن يتحول إلى ذلك المستبد، ويحمي الأميركيين من شروره كان النظام الديمقراطي.

 الاستبداد، بهذا المعنى، يحيل حتى الملائكة إلى طغاة أشرار إن مارسوا السلطة ضمن هذا السياق الوظيفي. وبالمقابل البنية، أو النظام الديمقراطي، هي التي تحكم على أيّ مأفون ومهووس بالسلطة ومنحرف على أن يحكم ويمارس السلطة بصورة عقلانية وعادلة قدرة الإمكان. وهنا يكمن مغزى وأهمية شعار (التغيير البنيوي الشامل للنظام) عوضاً عن الشعار الذي رفعته وماتزال ترفعه المعارضة السورية المتمثل بـ(إسقاط نظام بشار الأسد) فحسب.

الاكتفاء بمعارضة الطاغية أو المستبد كذات لا يقود بالضرورة إلى نظام بديل أفضل وأكثر عدالة منه وأقلّ جوراً. الوعي بضرورة التغيير البنيوي الجذري لنظام الاستبداد هو الذي يمهّد لنظام ديمقراطي ومساواة.

محاربة المستبد تجعلك مقهوراً وتُولّد لديك الرغبة في الانتقام الشخصي والثأر منه، دون أن تجعلك نصيراً للعدالة والمساواة بالضرورة. أما وعيك بنظام الاستبداد وضرورة تغييره هو الذي يجعلك مدافعاً حقيقياً عن العدالة ومكافحاً ضد الجور في كل مكان وأوان باتساقٍ تام ودون هوادة.

هذا المنطق السياسي في التفكير هو الذي طغى لدى المعارضة السورية، أيّاً كان حجم التضحيات البشرية التي قدمتها في مواجهة المستبد، دون أن يجعل ذلك منها معارضة حقيقية وجذرية لنظام الاستبداد في سوريا، وهو ما يفسر ازدواجية المعايير السياسية وتناقضاتها الصارخة في سلوكها السياسي اتجاه القضايا الداخلية والخارجية. فمن جهة أولى نرى المعارضين يهللون لمستبد طائفي مهووس بالعنصرية القومية مثل أردوغان، يتظللون بظله، ويصفقون لاستئثاره وحزبه بحكم تركيا ويباركون له كل ممارساته القمعية بحق معارضيه، ولا يكفون عن الصراخ والتنديد باستبداد بشار الأسد من جهة أخرى. وهذه الازدواجية تطغى على معظم ممارساتهم ومواقفهم السياسية ومفاهيمهم عن المواطنة والمساواة بين السوريين والتعددية…إلخ كما سيتضح لنا.

إن الجذر الحقيقي لهذا التفكير يكمن في شخصنة السياسة وشخصنة الاستبداد، ومن ثم الاعتقاد بأن تغيير الفرد المستبد كاف لتغيير النظام السياسي. 

إن شخصنة السياسة تتعارض كلياً مع الفكر السياسي التحرري الحديث. شخصنة السياسة تنتمي إلى حقبة الطغيان، حيث كان الحاكم، الطاغية الفرد، هو السياسي الوحيد الحرّ بين جمهور من العبيد لا شأن لهم بالسياسة. إذ كان يحتكر السياسة وحق ممارستها في شخصه، ولم يكن هنالك شأن للآخرين بها.

 وإذا افترضنا أن مقارعة المستبد هي المظهر السلبي للشخصنة السياسية، فإن المظهر الإيجابي يكمن في اعتقاد جماعة ما أو شعب بأن تحرره رهن بوجود القائد المخلص، الملهم.

الشعب أو المجتمع الذي ينشد الحريّة والمساواة، يتعين عليه ألا يبقى رهين عقل فرد واحد، عليه أن يعلن القطيعة مع مفاهيم الزعيم الأوحد والقائد الملهم، العبقري الذي يصنع الشعب والتاريخ معاً. مثل هذا الاعتقاد يتعارض مع كل فهم للسياسة بصفتها شأناً عاماً للجميع، الذين عليهم واجب وحق تقريرها بإرادتهم المستقلة، وإلا فإن أفراد هذا الشعب أو المجتمع إنما يسلبون عن أنفسهم صفتهم الإنسانية ككائنات حرة وعاقلة تتمتع بكرامة التفكير.

وفي الحالة السورية نجد كلّ المظاهر السلبية لشخصنة السياسة في تفكير ومنطق المعارضة السورية. إن أكبر دليل على أن العقل السياسي للمعارضة السورية لا يختلف عن ذهنية النظام المستبد، نظام (القائد الخالد)، وأنها لا تطمح إلى التغيير الديمقراطي الجاد في سوريا، إنما تريد فقط الإطاحة برأس النظام لأسباب طائفية، وتبقي على ما دونه، هو أنها لم تقم لحدّ الآن بأيّ نقد لأيديولوجية البعث وممارساته، ولازالت تلتزم الصمت إزاء ممارسات البعث الفاشية. وصمتها هذا برهان على أنها تريد أن تنزه البعث ونظامه المستبد من جرائم رأس النظام، ولا تعتبر حزب البعث شريكاً له في كل ما حصل. وهذا ما يفسّر لنا لِمَ عجزت عن بلورة قيم ديمقراطية ووطنية جديدة تعكس انتماءً وطنياً أسمى، على العكس من ذلك، كلما مضى الوقت أكثر تعرّت أكثر من القيم الديمقراطية والوطنية، وغرقت وتمترست وراء قيم أيديولوجية في غاية التخلّف والعنصرية.

انطلاقاً من هذ الفهم المحدود والقاصر للسياسة، ظلّ سلوك المعارضة السورية طوال أكثر من عقد من النزاع مطبوعاً بطابع ازدواجية المعايير والتناقض، وتجلّى ذلك في العديد من المواقف والمحطات الهامة، التي كشفت عن مفارقات أخلاقية وسياسية فاضحة، منها أن معظم صقور هذه المعارضة السورية التي كانت تدعو المجتمع الدولي وتحرّضه على ضرب النظام، كانوا في يوم ما إلى جانب نظام صدام حسين، وعملوا بكل طاقتهم لتبرير أو تبرئة استخدامه للأسلحة الكيماوية ضد الكرد في حلبجة. ووقف الأكثر تشدقاً بينهم وصراخاً ضد الحملة الأميركية لضرب العراق وإسقاط نظام صدام حسين. ومواقف من أعنيهم جميعها موثقة. هذه المفارقة ينبغي إظهارها الآن وشرحها وتبيان حجم النفاق السياسي والكذب، الذي انطوى عليه سلوك هؤلاء. النظام أجرم وكان ذلك متوقعا منذ البداية، ولكن لا يمكنني بأي حال فهم ردّة فعل هؤلاء ضد إجرام النظام على أنه موقف أخلاقي وإنساني منسجم، ولا يمكنني أن أثق بأنهم ضد الاستبداد بالفعل. مَن منهم لم يشتم الجلبي وعلاوي والحكيم من قبل حتى صار يتخذ منهم مثلاً سياسياً أعلى وقدوة له الآن؟

ولا تقتصر هذه الازدواجية على سلوك المعارضة السياسية فحسب، وإنما تشمل سلوك مثقفي المعارضة. إذ بدا عدد كبير من المثقفين السوريين ممن كانوا حتى عشية النزاع يعدّون أنفسهم أئمة في التنوير والعقلانية …الخ لم يعودوا يخجلون من أي ادعاء طائفي صارخ. أعني تحديداً أولئك الذين برروا ويبررون أيّ شيء في سبيل الانتقام من النظام ومن طائفته. هؤلاء لم تحركهم سوى الرغبة في الانتقام والكراهية، وليس منطق مناهضة الاستبداد جذريّاً. كل شيء بات مباحاً لديهم ومبرراً طالما يخدم هدف الانتقام من رأس النظام. ولهذا ضلل هؤلاء الناس وسوغوا تسلل القاعدة (وجبهة النصرة) وجميع المتطرفين الإسلاميين والإرهابيين للانتفاضة السورية، وسهّلوا لهم السطو عليها. وهؤلاء أنفسهم طهّروا الوجه القبيح للإرهاب في حلب وغيرها من المدن وبرروا قتل أطفال الكرد في عفرين والعلويين. هؤلاء الذين أسميتهم من قبل بـ(المثقفين العراعرة) أجرموا بحق الثورة وخانوا آمال الناس أكثر من الجميع.

مثقفون سوقة باتوا مجردين من كل ادعاء أخلاقي أو قيمي ومن كل حس نقدي بالتاريخ. لم يكن يهمهم سوى الجعير الإعلامي والزعيق الطائفي المضلل، ومحاكاة أهواء الشارع والرعاع.

مثقفون تاجروا بكل مبدأ وقيم سامية في حياة السوريين وقامروا بها، ومن ثمّ أشاعوا وباء الكراهية الطائفية والقومية وخلّفوها في كلّ مكان. ولهذا السبب نفهم الآن لِمَ بدأت الانتفاضة السورية كثورة عظيمة وانتهت كسيرك عملاق للقتل والخراب، انتهت كجحيم مفتوح يلهو فيه جميع شياطين الأرض وأقزامها.

 منذ بداية النزاع، بدا جليّاً أن بشار الأسد لم يكن يخشى جبهة النصرة ولا داعش ولا جيش الفتح وأحرار الشام. بشار الأسد لم يكن قلقاً من الإخوان المسلمين ومن شابههم، لأن هؤلاء جميعاً لم يكونوا معارضين جذريين للاستبداد كنظام ولم يكونوا يملكون خطاباً معارضاً للاستبداد الشمولي. ومن هنا فقد تمكّن النظام، طوال سنوات من الخراب والنزاع الدموي المدمر أن يستمر بفضلهم وينتفع من وجودهم. وفي نهاية المطاف كان على يقين أن هؤلاء لن يأتوا بنظام أفضل من نظامه.

بشار الأسد كان يخشى السوريين الأحرار والمستنيرين، الديمقراطيين حقاً، العقلانيين، الذين كانوا يرفضون كل هذا النظام اللاعقلاني. وهم وحدهم كانوا القادرين على تعرية نظامه وعزله ورميه في مزبلة التاريخ. هؤلاء وحدهم كانوا الأعداء الحقيقيين لنظام الاستبداد، الذي يمثله بشار الأسد، وهو أدرك ذلك منذ بداية اليوم الأول للانتفاضة السورية، ولهذا السبب بالذات استوحش بحقهم أكثر من الجميع، وبالمقابل أطلق أيادي جميع أولئك المتطرفين من جحور معتقلاته كي يثيروا زوابع الكراهية وفوضى التكفير بوجه السوريين ومستقبل ثورتهم. ومن ثم استطاع أن يفسد عدالة ومقاصد الانتفاضة وشرعيتها، وهؤلاء التكفيريين بالذات هم من برروا لنظام الاستبداد توحشه وأعادوا تأهيله وتقديمه بوصفه نظاماً يعادي الإرهاب والإرهابيين، ومنحوه ترسانة من الذرائع المجانية لهذا الغرض. بشار الأسد وهؤلاء كانوا في جبهة واحدة منذ البداية وحتى الآن، جبهة الاستبداد وإعادة إنتاجه، ضد جبهة التغيير الشامل، جبهة قيامة السوريين.

العلمانيون الحقيقيون كانوا بالفعل الخصوم التاريخيين لنظام بشار الأسد وأبيه، المؤهلين للإطاحة به وتقويضه. وكان الأسد يخشاهم أكثر من جميع التيارات السياسية الأخرى. فالديمقراطية الحقيقية لا يمكن أن تأتي إلا عبر بوابة علمانية حقيقية، والمساومة مع الاستبداد يمكن أن تتحقق عبر جميع الخيارات الأيديولوجية والسياسية، إلا مع الخيار العلماني والديمقراطي.

الإسلام السياسي كان تاريخياً أكثر تقبلاً لنظم الاستبداد، وأكثر قبولاً واستعداداً للتواطؤ معها والتسوية. وبموازاة ذلك كانت النظم العربية المستبدة الأكثر تشجيعاً للتيارات السلفية والإسلاموية. هناك إذن قران غير شرعي بينهما أكثر تماسكاً ورومانسية من الزواج المقدس.

من هنا نفهم لمَ أراد بشار الأسد وعمل على تصفية دور جميع الناشطين العلمانيين والديمقراطيين منذ بداية الثورة، كي يُبقي على جبهة الإسلاميين وينفرد بهم بزعم محاربة الإرهاب الديني، وبهذا المعنى منح إرهابه شرعية سياسية. وبالطبع هذا السلوك الإجرامي لنظام بشار الأسد كان قد أغرى الإسلاميين والإخوان في سوريا وأثار الشماتة والتشفّي لديهم على العلمانيين. فقد التزموا الصمت إزاء عسف بشار الأسد بحق العلمانيين قبل الانتفاضة وخلالها اعتقاداً منهم أن نظام بشار يعفيهم من مهمة التخلّص من هؤلاء المنافسين لهم على سلطة الثورة والدولة، ولن يكونوا مدعوين للقيام بتلك المهمة الشاقة كما فعل آية الله الخميني عقب انتفاضة الشعب الإيراني على نظام الشاه عام ١٩٧٩. وهذا يفضح حقيقة مزاعمهم عن الديمقراطية.