الحرب الطاحنة على الكاريكاتور

والآن بعد ثلاثة أشهر من حملات الكراهية بين تيار الإسلام الغاضب وقيم الجمهورية الفرنسية ماذا كان الحصاد؟؟.

كانت أحداث الأشهر الأخيرة محيرة وصادمة تماماً لنا نحن الذين نرابط على خندق الإخاء بين الإسلام وبين العالم، ونزعم أن العالم قد أصبح أكثر رشداً ووعياً وعافية، وأن نهاية التاريخ باتت سعيدة وقريبة، ولكننا نفاجأ بأن نار الكراهية والبغضاء لا تزال مستعدة بأدنى قدر من الوقود أن تلتهب وتلتهم وتأكل الأخضر واليابس وأن إخاء الأمم والأديان لا زال حلماً ساذجاً بعيد المنال.

والحدث كما هو معلوم أن متطرفاً غاضباً أقدم عن عمد وتصميم على قطع رأس معلم فرنسي، انتقاماً منه بعد أن قدم درساً للطلبة وشرح فيه جانباً من ممارسات الفن الحر في فرنسا لتصوير الأنبياء!.

والتعبير بالرأي أو الرسم أو الموسيقا أمر عادي تماماً في العالم الحر، ويحصل تقريباً كل يوم، والرسم الكاريكاتوري لا يعني الإساءة بالضرورة بل هو لون من التعبير الساخر وهو يحصل يومياً في حق الأفراد والزعماء والقديسين والدول والأنبياء والآلهة في أوروبا وأميركا وآسيا وإفريقيا دون أن ينتبه أحد.

والأهم من ذلك أنه كان يحصل يومياً في عصر النبوة ضد الرسول مباشرة ولكنه كان يكتفي بوصية ربه: وأعرض عن الجاهلين، ويدفع السيئة بالحسنة، وحين تفاقم الاستهزاء كان أقصى ما بلغ من الرد هو قوله: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون… وانتهت المشكلة.

وفي الحالة الفرنسية فقد كان سلوك المتطرف في الذبح متوحشاً للغاية، وبعد أيام قليلة أقدم متطرف آخر على اقتحام كنيسة في نيس وقتل ثلاثة أبرياء وذبح إحداهن بالسكين، في الذكرى الثانية للشاحنة الأكثر إجراماً في التاريخ والتي قادها متطرف آخر في مدينة نيس وقتل بها 86 روحاً بريئة وهو يهتف “الله أكبر”.

ولكن الأبشع من هذه الممارسات اللئيمة هو الحملات الشعبوية الهائلة التي أطلقتها دول ومجموعات لأهداف مختلفة وقد التقت مصالحها على نفخ نار القطيعة والحرب بين الإسلام والعالم، وظهرت على شكل تظاهرات تؤيد بوضوح أعمال الاغتيال والقتل، وتبرره بأنه دفاع عن رسول الله، وأصدر اليوتيوبيون مئات الأشرطة التي حظيت بمتابعات مليونية في وجوب قتل من يسيء إلى الرسول دون تردد، ولم يبال هؤلاء أن يصوروا الرسول الكريم في صورة ديكتاتوري ظالم في ملامح تيمورلنك وهتلر وستالين يرصد على الناس أنفاسهم وأقلامهم ويزجهم في عنابر الموت، وشاهد العالم مظاهرات صاخبة في المدن المحترقة في إدلب وغزة واليمن وليبيا ولبنان ترفع صور القتلة وتطوبهم قديسين، فيما تهين كل ما يتصل بفرنسا علماً ورئيساً وتاريخاً، وتكرسها عاصمة للشر والكفر وتتوعد بالمزيد!.

كل واحدة من هذه التفاصيل كانت كافية لإشعال حرب طاحنة لو أن فرنسا كانت تقودها النابليونية الفاتكة، أو الامبراطورية الجرمانية المقدسة، ولكن ماكرون انتخب على رأس النظام العلماني ويحكمه القانون ولا يستطع أن يتجاوز ما يسمح به القانون وقام باعتقال من ثبت ارتباطه بهذه الجرائم وأعلن عن سلسلة إصلاحات لمحاصرة الإرهاب وخلاياه في فرنسا.

لم يزد الرئيس الفرنسي أن قال بمرارة: إن الإسلام يعيش في أزمة، وهو موقف في لحظة انفعال، وربما كان موقفاً غير حكيم، ومن الطبيعي أن يقوله أي رئيس يواجه أحداثاً مريرة كهذه، فالرجل رئيس فرنسا وليس رئيس مكة، ومسؤوليته وواجبه أن يتعاطف مع الدماء التي سالت من أفراد شعبه في سياق الحريات الفرنسية التي يقرها قانون الجمهورية، قبل أن يتعاطف مع المشاعر العاطفية الانفعالية لمن ساءهم الرسم العابث.

المؤسسات المحترمة في فرنسا وعلى رأسها المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية قاموا بواجبهم في التبرؤ من هذه الجريمة وطمأنة الشعب الفرنسي أن التطرف لا دين له وأعلنوا بوضوح دعمهم لسياسات الدولة في تجفيف منابع الإرهاب وأن ما تقوم به الدولة هو عين ما يجب أن يقوم به المسلمون أنفسهم، وهو موقف مسؤول ومحترم وهو شأن كل من يعمل بحرية في بلد الحريات ويقسم على حماية قيم الجمهورية.

وفي مساجد فرنسا التي يبلغ عددها 2620 مسجداً صدرت أصوات مماثلة في رفض الجريمة وتأييد الحريات في فرنسا، والمطالبة بتحديث القوانين لمنع العابثين من الإساءة إلى الوحدة الوطنية والإخاء بين أفراد الأمة.

وفي قصر الإليزيه استقبل ماكرون باحترام ممثلي المجلس الفرنسي للعبادة الإسلامية (CFCM) الذي تم إنشاؤه عام 1999، باعتباره الكيان المحاور الرئيسي للسلطات الفرنسية باسم نحو 20 مليون مسلم في فرنسا نصفهم فرنسيين أو حاصلين على الجنسية الفرنسية، وكان الاتفاق تاماً حول حماية قيم الجمهورية ووجوب تجفيف منابع الإرهاب وأدواته، وقدم القادة المسلمون تقريراً واضحاً وضوح الشمس عن موقف الإسلام من الإرهاب، وعن الحريات الدينية الجيدة التي يعيش فيها المسلمون في فرنسا.

عشرون مليون مسلم، وأكثر من ثلاثة آلاف مؤسسة إسلامية بين مسجد ومدرسة وكيان اجتماعي تعاطفوا مع الضحايا وأعلنوا رفض الإسلام لهذا التوحش، وطالبوا الدولة بالحزم والحسم في مطاردة الإرهاب وقدموا ما يستطيعون لمواجهة ذلك.

ولكن المفاجأة كانت في الغضب الشعبي الهائل في بلاد المسلمين وبشكل خاص في تركيا بعد أن أعلن أردوغان مباشرة وجوب عرض الرئيس ماكرون على مصح عقلي!! ثم أعلن في لقاء متلفز وجوب مقاطعة البضائع الفرنسية!.

لا أعتقد أن المسألة مقاطعة بضائع ولا أعتقد أن الحملة على انتشارها واتساعها قد أربكت الاقتصاد الفرنسي، وقد جاء تأثيرها محدوداً، ولست معنياً بتقدير الخسارات الاقتصادية وما سحقته في دربها من شركات صغيرة يعود معظمها لمسلمي فرنسا الذين يعملون أساساً في التصدير إلى البلاد الإسلامية، ولكن المؤلم هو حجم الكراهية التي باتت تنفخ فيها نخب عربية وإسلامية متخصصة في نار الكراهية، وتم عرض عشرات السيناريوهات لمؤامرات دولية تحاك ضد الإسلام، وأن الصواريخ الفرنسية ومن خلفها حلف الناتو على وشك اجتياح مكة والمدينة، وأن الألوية تعقد في الفاتيكان لحرب صليبية جديدة وقودها الجماجم والدم.

خلال هذه الأشهر الثلاثة ارتكبت فظائع وجرائم على طول العالم الإسلامي وعرضه وقصفت أنظمة المقاومة ومعها إيران وروسيا وأميركا بالراجمات والبراميل مدناً وقرى في الشام والعراق وليبيا واليمن، وتفاقم التعذيب في السجون وصدرت قوائم جديدة من قتلى المعتقلات وصور قيصر، وازداد بشكل متوحش اضطهاد الإيغور في الصين وقتلت داعش في الصحراء السورية أكثر من مائتي ضحية، واختطفت بوكو حرام 300 طفلاً وأربعين حطاباً ومزارعاً، قتل كثير منهم وأغارت إسرائيل أكثر من عشرين مرة على طول الوطن السوري المستباح وعرضه، ولكن لم تحظ هذه الجرائم بتلك الغضبات المضرية الهادرة، وظلت مجرد أخبار على الشريط التلفزيوني فيما ظل الغضب مشتعلاً بشعار بالغ الهياج (إلا رسول الله) وهو غير معني بكل هذه الجرائم الدامية في بلاد المسلمين، وهو فقط موجه ضد السياسات الفرنسية التي تعاطفت مع الأبرياء المذبوحين ولم تلتفت إلى جرح مشاعرنا الرقيقة، وبدلاً من كل الجرائم الدامية النازلة بالمسلمين ظل أخطر ما تواجهه الأمة الإسلامية تصريح للرئيس الفرنسي يقول إن الإسلام في أزمة وإن المراجعات ضرورية لتجفيف منابع الإرهاب!.

لا أجد تعبيراً عن واقعنا أبلغ من رائعة ثربانتس في دون كيشوت ومطاردة طواحين الهواء، فـ”الطبل في منين والزمر في حرستا”، والأمة المثكلة بالمآسي والمواجع تختصر مآسيها وعذاباتها وعناء شعوبها في حرب جهادية طاحنة ماحقة ضد الكاريكاتور!.