قراءة في تداعيات معركة عين عيسى

منذ قرابة الشهرين تستمر هجمات المجاميع العسكرية، التي تنطوي جميعها تحت قيادة (الجيش الوطني السوري) وواجهته السياسية الائتلاف المعارض، الذي يضم طرفاً كردياً التزم الصمت المريب حتى الآن كموقف سياسي وحيد له إزاء الانتهاكات المستمرة للدولة التركية والميليشيات المرتبطة بها.

ورغم أن هذا الهجوم، الذي تقوم به الميليشيات المعارضة، يتمّ في ظلّ تواطؤ مريب روسي وتركي لمصلحة نظام بشار الأسد، على طرف آخر كانت المعارضة السورية الإخوانية ولاتزال تعدّه حليفاً للنظام السوري، إلا أنها تعدّ هذه المواجهة والانسياق مع المخطط التركي ـ الروسي موقفاً وطنياً ولمصلحة ما يسمونها بـ(الثورة السورية) وهنا تكمن المفارقة السياسية الكبرى الناجمة عن الارتهان لأجندة الدول الإقليمية، التي تتاجر بكل شيء، حتى بدماء ملايين السوريين وأوجاعهم، خدمة لمصالح أمنها القومي.

القناعة السائدة الآن لدى معظم المراقبين هي أن الرئيس التركي يسابق الزمن ويراهن على التخلص من عدو (أمنه القومي) في الشمال السوري (قسد) ومشروعه السياسي في هذه المرحلة بضربة أخيرة، قبل تولّي الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن إدارة الحكم في الولايات المتحدة، عبر وضع قوات قسد أمام خيارات قاسية ترغمها على تسليم المنطقة لنظام بشار الأسد.

فوجود قوات بشار الأسد على حدوده الجنوبية أضمن له، ولا تثير الأرق لديه، كما يثيرها وجود قوات سوريا الديمقراطية. وهنا تكمن المفارقة الثانية المتمثلة في أن جماجم ميليشيات المعارضة السورية هي التي تعبّد الطريق لجزمات جيش النظام كي تستعيد الهيمنة على هذه المناطق مرة أخرى. وهذه المفارقة تكشف على نحو صارخ درجة استرخاص الرئيس التركي والمعارضة السياسية لدماء هؤلاء، ومدى إذعانهم لأجندة الأمن القومي التركي.

الروس بدورهم انقلبوا على عهودهم والضمانات التي قدموها لقوات (قسد) في تشرين الأول/ أكتوبر ٢٠١٩ بعدم توغل الجيش التركي والميليشيات الموالية له مرة أخرى مسافة أعمق من ٣٠ كم. ومعلوم أن عين عيسى تبعد حوالي ٣٧كم عن الحدود التركية.

إلا أن الرئيس الروسي في محاولته الأخيرة أراد أن يعمق الانقسام أكثر بين الرئيس التركي والولايات المتحدة ودول الناتو، عبر دفعه للتورط أكثر في المواجهة مع قوات (قسد)، قبل مجيء إدارة بايدن، ومن ثم سدّ الطريق أمام أيّ عودة محتملة لأردوغان بهدف إصلاح العلاقة مع الإدارة الأميركية الجديدة، وبقائه حليفاً مرتهناً لأجندة روسيا في الملف السوري. الأمر الآخر تحقيق المزيد من الهيمنة والنفوذ الجيوسياسي لمصلحة النظام السوري دون الانخراط في أيّ مواجهة مباشرة مع قوات التحالف والولايات المتحدة بصورة خاصة.

الرئيس التركي، بفطرته الانتهازية، ظهر حذراً جداً هذه المرة، ومدركاً لعواقب التورط الميداني والعسكري المباشر في المعركة، بخلاف ما عهدناه عنه في المعارك السابقة حينما كان يقوم باستعراض عضلاته وصراخ تهديده ووعيده قبل كلّ معركة. بدا كضبع خائف ومتوجس، رابط على المضارب يراقب ما يجري في الميدان ويرصد ردود الأفعال الدولية، وبخاصة ردة الفعل المحتملة للولايات المتحدة الأميركية.

بالطبع هو لم يتخلّ عن أجندته السياسية السابقة، ولا عن أهدافه، إلا أنه يريد تحقيقها هذه المرة بأذرعه الرخيصة، المتمثلة بميليشيات المعارضة السورية، دون أن يكلفه ذلك قطرة دم تركي، أو خسائر سياسية.

فالدماء السورية مجانية ومتوفرة ويمكن هدرها دون حساب في القفقاس كما في الشمال الإفريقي، كيف لا وأرض المعركة سوريا هذه المرة، ولا يحتاج للأموال لتشجيع المرتزقة على الذهاب للمعركة ولا إلى الشعارات لتبريرها، فهذه الأخيرة تنبري المعارضة الإخوانية المؤتلفة لصناعتها وإطلاقها طواعية. كذلك هو لا يريد أن يقامر بأيّ إمكانية لعودة العلاقة مع الإدارة الجديدة، فالوضع الداخلي التركي المتأزم على كل المستويات يفرض عليه مراجعة سياسية حذرة جداً لعلاقاته الدولية مجدداً.

تقويض الأساس الجيوسياسي لوجود القضية الكردية يظلّ الهدف الأساس للرئيس التركي منذ بداية الأزمة وحتى الآن، إنه هدف جميع معاركه في الشمال السوري ومعركته الراهنة في عين عيسى.

ولتحقيق هذا الهدف تعين عليه تجريف الديموغرافية والوجود الكرديين في الشمال السوري وغرب كردستان. وهذا الهدف وحده يمنع الكرد من حق المطالبة بأي وضع سياسي أو تمثيل دستوري مستقبلاً كما حصل في كردستان العراق بعد ٢٠٠٣.

معظم الأطراف، التي تزعم تمثيل القضية القومية، وبخاصة تلك المتورطة في أطر المعارضة الإخوانية، تجاهلت أو تنازلت عن الأساس الجيوسياسي للقضية القومية، وبالتالي عن مفهوم الحق السياسي للجماعة القومية. وتواشج ذلك مع تجاهل مقصود لدلالات مفهوم (الوجود القومي الكردي) الجغرافية والتاريخية. وكرّس هذا الأمر في نهاية المطاف التنكر للمجال الجيوبولوتيكي لمفهوم الشعب الكردي تنكراً تاماً. من هنا تحوّل مفهوم (الهوية القومية) في مواقف وممارسات هؤلاء وشعاراتهم إلى مصادرة ميتافيزيقية وأنثروبولوجية مضللة لحقيقة الوجود القومي للكرد، تفتقر إلى أي مصداقية معرفية سواء (حقوقية أو سياسية). ومن هنا لا يمكن ضمان أي حقوق سياسية أو دستورية من خلالها أو إلزام أي طرف بها. إن تجريد أي (هويّة) من بعدها الجيوسياسي، يجعل منها مفهوماً محض ثقافوي في أحسن الأحوال، ويجعل من الحديث عن (الشعب الكردي) لغواً فارغاً، يحيل الشعب ويختزله في جماعة بشرية دون أيّة ملامح سياسية أو خصائص تاريخية.

من هنا يمكننا أن نفهم لمَ كانت الجغرافية القومية والديموغرافية هما الضحيتان الرئيستان لغزوات الرئيس التركي وميليشيات المعارضة السورية التي تأتمر بأمرته. ولمَ كل هذه البربرية التي نشهدها في عفرين ورأس العين، المتمثلة في التغيير الديموغرافي وسياسات التهجير القسري؟ ولمَ حرص أردوغان منذ البداية على تمييع الطابع السياسي المستقل للقضية الكردية عبر استدراج أطراف كردية إلى أطر وأجندة المعارضة؟ فقد نجح حتى الآن في تحويل الأساس الجيوسياسي للقضية الكردية والديموغرافية إلى أرخبيل مشوّه ومنحرف يتعذر معه المطالبة بأية حقوق أو تمثيل سياسي معادل للقضية القومية للشعب الكردي.