سيرة ملحمية لباشا كردي

في آذار1909، حدث تمردٌ في إسطنبول ضد جماعة الاتحاد والترقّي، سرعان ما تم قمعه بالقوة، وهو الحديث الذي كان محور مرافعات للشيخ سعيد النورسي الكردي، الذي كان من المتهمين بدعم الجمعية المحمدية للتمرّد الفاشل في تجمع حضره 100 ألف في آيا صوفيا.

 في هذه الأثناء، يذكر  الباحث والمؤرخ  الكردي جليلي جليل في كتابه “الحركة الكردية في العصر الحديث”، حادثة طريفة عن إرسال الزعماء الكرد في ولاية دياربكر، مركز الثقل الأول في السياسات الكردية، رسالة تهنئة للسلطان عبدالحميد الثاني، على التخلص من الانقلابيين.

لم يكن قد بلغ هؤلاء الزعماء حينها أن الاتحاديين قد خلعوا السلطان عن عرشه، ومن المرجح أن البرقية وصلت إلى وجهتها.. أي إلى الاتحاديين.

لم يكن الانقسام الكردي حول المشروطية الثانية(إعادة العمل بالدستور) وجهات نظر، فالقوة المسلّحة الكبرى بقيت في أيدي الزعماء العشائريين في الأفواج الحميدية، وعلى رأسهم في ذلك الحين، الزعيم التاريخي لقبيلة حيدران الكردية، كور حسين باشا، الذي لم ترهبه مذبحة الاتحاديين ضد الأفواج الحميدية في سهل ماردين، وقتل إبراهيم باشا الملي. فقاد كور حسين باشا المقاومة ضد الاتحاد والترقي، ونجح في إجبار المجموعة الانقلابية على التخلي عن حل الأفواج الحميدية، مكتفين بتغيير اسمها، وتقليص تسليحها.

في ظل هذا التضييق على سلاح الخيّالة الكردي، الوحيد، والأقوى، التفّ باشا حيدران على الاتحاديين والزعماء الكرد المؤيدين للإطاحة بالسلطان، وغادر إلى الأراضي الكردية في إيران، مصطحباً معه آلاف المسلحين ممن تبقى من قوة الطبقة التقليدية الكردية المناهضة للتغيير. وعلى رأي جليلي جليل، لم يبقَ عملياً وجود لسلاح الخيّالة الكردي، مع نقل كور حسين باشا لقواته إلى إيران.

أجرى الاتحاديون تغييراً في استراتيجيتهم تجاه إيران، فاحتضن الاتحاد والترقي تمرداً قاجارياً فريداً من نوعه، في 1910 –1911،  يقوده سالار الدولة، شقيق الشاه المخلوع، محمد علي شاه، من خلال جيش من المسلحين الكرد الإيرانيين المؤيدين للعثمانية، يتقدمهم داوود خان كلهور، زعيم أقوى قبائل كرمانشاه، وأيضاً قبائل كردية مستاءة من ضريبة الملح الباهظة التي فرضها الدستوريون، وهي تؤثر على الكرد العاملين على استخراج الملح في محيط بحيرة أورميه.

 تفيد العودة إلى كتاب كمال مظهر أحمد (دراسات في تاريخ إيران الحديث) لمعرفة اتجاهات السياسات القبلية والدولية في كردستان خلال فترة الاضطرابات الدستورية في إيران والعثمانية عشية الحرب العالمية الأولى. إن جرعة التتريك لدى سالار الدولة، والتفاخر الطوراني المتبادل بينه وبين قادة الاتحاد والترقي، أفسد التمرد.

وسرعان ما تخلى الكرد عن سالار الدولة بعد هجوم البختياريين على همدان، وفرار سالار الدولة إلى عاصمة كردستان التاريخية هناك، سنه، أو “سنندج”، ومن هناك أيضاً لم ينجح في كسب ولاء الإقطاعيين الكرد الذين فضّلوا، على غرار كور حسين باشا حيدران، التطلع إلى الانضمام للقوات الروسية ضد الاتحاد والترقي، وعدم التورط في سياسات بلاد فارس حيث كانت منفرة ووحشية ومليئة بوقائع سمل العيون للحلفاء.

 لم تكن الحركة القومية الكردية متطورة ثقافياً، لكن ليس إلى الدرجة التي يمكن فيها خداعهم من قبل شاه قاجاري تخلى عن الثقافة الفارسية، عائداً إلى الطورانية من بوابة الاتحاد والترقي، ومحاولة وضع إيران تحت وصاية تركيا التي كانت هي الأخرى تنسلخ عن عثمانيتها كما انسلخ القاجاريون الأواخر عن المدار الثقافي الإيراني.

في سنوات الحيرة الكردية الطويلة، من 1908 وحتى نهاية 1925، انقسمت الآمال الكردية على الخارج. قسمٌ من هؤلاء تأمّل خيراً بأن الفئة الناجية هي المتجهة إلى روسيا. كان من بين هؤلاء باشا حيدران، ومثله عشائر القطاع الشمالي من كردستان، القريبة من نهر آراس وآرارات، يسانده في ذلك المرجع النقشبندي الأكبر، الشيخ محمد صدّيق، الذي أفتى للقادة الكرد التعاون مع الدول “الكافرة” ضد الدولتين المسلمتين، العثمانية والقاجارية، بقوله كما نقله جليلي جليل عن الوثائق الروسية، إن “كردستان، من بايزيد إلى كرمانشاه، قد خارت قواها من الظلم.”

لو تمّت تجزئة سيرة، كور حسين باشا، ستكون هناك شخصية المخلص الأبدي لقبيلته الكبيرة، والخائن لشعبه وقضيته في مراحل عديدة، والوطني الكردي في مراحل مبكرة من حياته، ورمز كردي قومي في نهاية حياته. هذه الشخصية المركّبة ليست فريدة من نوعها في واقع الأمر، فمعظم الأسماء القيادية عاشت تقلّبات وانقلابات في الرؤية السياسية، في مرحلة تدمير العالم لنفسه في الحرب العالمية الأولى، وقبلها وبعدها بسنوات قليلة. ولدى الباشا جانب روحي غامض، وهو طاعته المطلقة للشيخ سعيد الكردي النورسي.

فقد اتفقت رواية السياسي الراحل، قدري جميل، مع شهود من المحيطين بالشيخ سعيد، أن الشخص الذي أرسلته جمعية آزادي لإقناع النورسي بالمشاركة في ثورة 1925، كان كور حسين باشا حيدران الذي أحضر معه كيساً من الذهب، كانت على شكل زكاة (ربما اعتقد أن الذهب هو أداة ترغيب للشيخ أن جانب الثورة ليسوا من الفقراء فقط). وبدلاً من أن يُقنع الشيخ، حدث العكس، بأن أقنعه الشيخ بعدم المشاركة في إراقة الدم.

 في سيرته الذاتية للنورسي، ينقل إحسان قاسم الصالحي عن شاهد كان قد حضر الحوار بينهما، أن كور حسين باشا احتار في أمره، وخشي أن يقال عنه إنه خائن وجبان، لكنه استجاب لدعوة النورسي.  

خلال سرده وقائع ثورة آغري (1927 – 1930)، تحدث الجنرال إحسان نوري باشا، القائد الميداني للثورة المندلعة في الكتلة الجبلية المحصورة بين ثلاث امبراطوريات تاريخية، هي روسيا والعثمانية وإيران، عن الوجه السلبي لـ”كور حسين باشا”، وهي سلبية ترقى لأن تكون لطيفة، ذلك أنه في أيام تلك الثورة، كان حسين باشا قد حسم أمره وانضم لمعسكر الثورة الكردية، وغادر معقله التقليدي إلى الجانب السوري للحدود، ومنها إلى بارزان حيث التقى بالشاب ملا مصطفى بارزاني.

بحسب الجنرال إحسان نوري، التحق أبناء حسين باشا بالثورة، وانتقل أبناءه وأقاربه الشباب “من سوريا، ودخلوا الحدود التركية، بعد قطع المسافات بين مديات وبشيري وغرزان وأطراف موش، وبعد إلقاء القبض على ثلاثة منهم، في إحدى الكهوف من قبل القوات التركية، وقتلهم، استطاع الباقون من الوصول إلى آرارات.”

في سردياته السريعة، لم يشأ الجنرال – وربما لم يستطع – تفكيك تناقضات شخصية حسين باشا، وفق منظوره، مكتفياً بإيراد التناقضات بشكل ملتبس، فمثلاً اشترك الجنرال مع قريبه خالد بك جبران، في قيادة تمرد ضد الدولة التركية، ولا يذكر التاريخ بالتحديد. حين ألقي القبض على القيادي الكردي والشخصية الشهيرة، خالد بك، وساقه العسكر من منطقة أرجيش، وهي معقل حسين باشا. لكن الأخير امتنع عن التدخل لانتزاع صديقه القائد الكردي من أيدي العسكر، وكان يمكنه ذلك بسهولة، ودون تداعيات خطيرة. 

لاحقاً، حين تم تأسيس جمعية استقلال كردستان، عام 1924 (جمعية آزادي)، كان كور حسين باشا، من أشد المؤيدين لبرنامج عمل الحركة القومية. لكن نمط القيادة العشائرية، في العموم، خاضعة لتقلبات حادة. فكان، على سبيل المثال، ضمن دائرة صداقة صلبة تجمعه مع حاجي موسى موتكي، (وهو نفسه صاحب قصة موسى بك الذي اختطف الفتاة الأرمنية كوليزار التي ينقلها التراث الشفاهي الكردي)، لكن صداقاته مع الشخصيات التي تجمعه معهم برنامج المقاومة، هشة ولا قيمة لها. على هذا الأساس يمكن فهم طبيعة موقفه من الثورة الأكبر والأخطر في مسيرة المقاومة الكردية حتى ذلك التاريخ، ثورة 1925 بزعامة الشيخ سعيد بيران.

أثناء هذه الثورة، اتسعت جغرافية الثورة المسلّحة الكردية الأولى التي تفهّمها الأرمن، وعملوا على دعمها، وشملت ثلاث قبائل كبرى (جبران – حسنان –زركان) وكان في طريقها للتوسع حتى اصطدمت بحدود قبيلة حسين باشا (حيدران). طلب منه قادة ثورة 1925 الانضمام إلى الحراك المسلّح وفق الخطة المرسومة مسبقاً، بموافقة من الباشا نفسه، لكنه امتنع عن ذلك. كلّف هذا الموقف الانسحابي ثمناً باهظاً. فقد تم إعدام خالد بك جبران في سجن بدليس، وتحول حسين باشا من موقف المتفرج إلى المتواطئ مع المذبحة اللاحقة.

يقول إحسان نوري باشا عن موقفه عام 1925: كان هذا الرجل، رغم امتلاكه أموالاً كثيرة طائلة، كان أسير حبه للنقود التركية، ويرفرف قلبه ويخفق للعملة التركية، وبحجة انتظار جواب من إسماعيل آغا سمكو، كان يغافل نفسه، ولحد اندحار ثورة الشيخ سعيد. وبعد هذا الانهيار، أو مصيبة الشيخ سعيد، وأثناء انسحاب ثوار جبران، زركان، حسنان، نحو الحدود الإيرانية، عن طريق مناطق عشيرة حيدران، استطاع هذا الباشا من إيصاد الطريق بوجه الثوار لمدة سبعة أيام، وبعد معركة ثورية، تمكن الثوار من فتح الطريق، والوصول إلى الحدود الإيرانية”. 

كان بإمكان كور حسين باشا أن ينقذ نفسه بعد المشاركة في الثورة. لكن لكي يتأكد أنه أنقذ نفسه كان عليه العمل ضد الثورة. ليست هذه الفكرة نتاجاً لشخصية كور حسين باشا فقط، بقدر ما هي أيضاً فلسفة النمط الإقطاعي في القيادة وقت الأزمات. فكان هؤلاء الحلقة الأصعب في دوائر الزعامات الكردية، وذلك لسبب واضح متعلق ببنية هذا النمط من القيادة. فالآغا يمكن له أن يتحرك كوحدة سياسية مستقلة، بلا مرجعية تفرض عليه التضحية بمصالحه أو الأخذ برأي لا يوافق عليه، وهذا ما فعله في ربيع 1925، مثله في ذلك مثل حاجو آغا، وغيره من العشائريين.

لكن طابع الانتقام التركي الغادر بـ”الخونة” والمتعاونين، أدى إلى إعادة النظر في المواقف السابقة لدى شريحة كبيرة من الكرد، بل إن “خونة 1925” شكلوا نحو نصف قادة ثورة آغري في ذروتها سنة 1930. فحسين باشا لم يتلقى مكافأة على خدماته في هزيمة الكرد، بل قامت الدولة بترحيله مع عائلته إلى غربي تركيا.

 كذلك فعلت مع كافة القادة الكرد المتواطئين معها. كان حاجو آغا يحضر محاكمة الشيخ سعيد بيران ونقل وقائع مرافعته الأخيرة قبل إعدامه. وباعتبار أن حاجو آغا، مثل حسين باشا حيدران، قد تواطأ ضد الثورة، فظن نفسه في مأمن.

كان القاضي يسأل الشيخ سعيد عن أعوانه ممن قدموا له الدعم، فكان يجيب أن حلفاءه كانوا كل المسلمين. لكن القاضي يسرد أسماء على الشيخ لتحديد صلته بهم، ووصل إلى اسم حاجو آغا، فأنكر الشيخ معرفته به، وقال إن “حاجو الإيزيدي يحارب رجالي”. كانت هذه المرافعة أساس التحول اللاحق لحاجو آغا الذي بات أبرز زعيم للكرد خلال الثلاثينيات، وعلق على محاولات القاضي الزج باسمه في المحاكمة بحسب ما نقله عنه الشاعر والسياسي الشهير، جكرخوين: “عندها أدركتُ أن الأتراك لا يريدون فقط قتل الشيخ، بل كل زعماء كردستان.”

من هذا الاستفزاز التركي ولدت ثورة آغري.

هرب حسين باشا من مخيم الترحيل، واستطاع الوصول إلى سوريا الفرنسية، وهناك انضم إلى جمعية “خويبون” للنضال في سبيل استقلال كردستان. في تلك الأثناء، توجه كور حسين باشا إلى جنوب كردستان من أجل الالتحاق بالثوار في آرارات من هناك.

 يروي إحسان نوري باشا، أن كور حسين بقي في ضيافة أحمد البارزاني عدة أيام، وصدف أن التقى هناك أيضاً باثنين من أقارب صديقه، حاجي موسى بك، أحدهما رافق الباشا إلى آرارات، وبعد ابتعادهم عن بارزان، قام بقتل “كور حسين باشا حيدران” أثناء نومه، من أجل أن ينال مكافأة العفو التركي، حيث كان قتل “كور حسين” من ضمن الأعمال الوطنية.

 يذكر  الباحث روبرت أولسن في كتابه تاريخ الكفاح القومي الكردي(1880-1925) حادثة القتل نفسها، لكن لدى أولسون، فإن الانتقام بإعدام “نوح بك”، المتهم بتدبير اغتيال حسين باشا، أمر به الشيخ محمود الحفيد وليس أحمد البارزاني. وفي رواية ثالثة شفهية، فإن ملا مصطفى قد نفذ حكم الإعدام ضد القاتل، نظراً لأن التخطيط للقتل قد تم وهم جميعاً ضيوف بارزان، فكانت من الكبائر التي لا تغتفر في المجتمع الكردي.

رغم أن المذكرات قد كتبت بعد أكثر من 30 عاماً على نهاية الثورة، تشفى الجنرال إحسان نوري باشا، قائد الثورة، بمقتل كور حسين، واعتبر أن ما جرى له أمر يستحقه جراء أفعاله الخيانية، وأن جثته لم تدفن وأكلتها الوحوش في البرية، لكنه يثني على أبناء حسين باشا الذين كانوا يقاتلون معه في الجبل.

لم يكن كور حسين باشا حيدران، مغترباً عن أفعاله وخيانته، ولم يكابر على تاريخه المتقلب. من أقواله التي ينقلها الشاعر الكبير جكرخوين: “على الأكراد أن يقتلوني دون محاكمة.”