النزعات القومية وتفكيك المدار العثماني

لا توجد صياغة لغوية تساعد في الالتفاف وتفادي القول إن الفكر السياسي الذي صدّرته الدول الأوروبية إلى شرق المتوسط، وبدرجة أقل استوردته نخب شرقية من الغرب، أي الفكر القائم على مكتسبات عصر الأنوار، أغرق المدار العثماني، وجواره، في بركة من الدماء، ولم تنتج ما هو أكثر تقدمية من عثمانية ما قبل الإصلاحات في شيء، إلا إذا كان الحساب يتخذ من التضليل الزمني على أنه منجز للدولة القومية مقارنة بالعثمانية، كأن يعتبر أحدهم أنه لولا الدولة القومية المشرقية لما تم مد خطوط الأسلاك الهاتفية، وهو في الواقع سيكون زعماً لا يزيد في فداحته عن المرويات القومية التهريجية حول التاريخ.

بداية هذا المسار المنحرف معروفة، وتتطلب فقط وضعها في سياق نقدي وليس فقط حكائي.

لم يكن القرن الثامن عشر فترة اضطراب داخلي في الدولة العثمانية، إلا ما ندر من حوادث لم تهدد كيان الدولة أو جزءاً من هذا الكيان المترامي. بقيت شعوب الدولة العثمانية أكثر تعايشاً مع التنوع وأقل وعياً بالعصبية العنصرية حتى مطلع القرن التاسع عشر حيث أخذ التغيير مساراً تغلبياً ضد النزعة المحافظة بدءاً من الواقعة الخيرية وحل الانكشارية عام 1826 وصولاً إلى بدء الإصلاح القانوني عام 1839، حيث أعدّ محمود الثاني مرسوم التنظيمات وتوفي قبل إعلانه رسمياً حين كانت جيوش مصر بقيادة إبراهيم باشا تهدّد العثمانية بالزوال.

ليس من السهل الانحياز في هذه المحنة إلى أي من الخيارين في الوقت الحالي كمراجعة تاريخية، فالإصلاح كان يعني إنقاذ الدولة المتجهة نحو الانهيار بسبب عقم الوصفات العلاجية الجزئية، في المقابل أدى تحديث الدولة إلى انهيار بنيوي في استقرار العديد من المجتمعات المحلية المتجاورة. فكل درجة من “التقدمية” هدمت درجة مقابلة من الكاريزما الامبراطورية للدولة، بسبب دوران الإصلاح في حلقة أوروبية لا تناسب ماهية العثمانية.

واحدة من التباينات العديدة أن دول أوروبا الصغيرة في الجغرافية الأم، المبنية على صيغة “الدولة الأمة”، دعمت الصيغة القومية بالتوسع الاستعماري الضخم ما وراء البحار، حيث أن الثورة الصناعية – كما وصفها إريك هوبزباوم في كتابه “عصر الثورة” هي “انتصار لسوق التصدير على السوق المحلية”، فيما لم يكن للعثمانية مركز صناعي تصديري، ولا هي دولة استعمارية بالمفهوم القومي، فهي غير صالحة بأي شكل من الأشكال أن تصبح دولة مركزية، لأنها حين أصبحت كذلك تحولت إلى دولة احتلال للمدار العثماني التعددي.

ليست المسألة في المفاضلة الثنائية واختيار الأقل سوءاً، لأن خيار إبقاء الدولة بدون إصلاح، بالترهل الكبير العسكري، وتحول الانكشارية إلى مؤسسة متطفلة على معظم السوق الداخلية، كان سيعجّل في انهيارها التام، الذي كان سيكون حتمياً في حرب القرم لولا انتشالها من جانب بريطانيا وفرنسا، وهما الراعيتان الأوروبيتان لتحديث الدولة العثمانية. واحدة من أهدافهما ضمان عدم تحول العثمانية إلى دولة صناعية، رغم أن الإرادة السياسية في الحكم لم تكن مؤهلة لمثل هذه الخطوة، على العكس، ما فعلته أنها أصدرت قانون “الطابو” في العام 1858، فتنازع الفلاحون فيما بينهم، والملّاكون فيما بينهم، واستولت جماعات على أراضي جماعات أخرى بالقوة المسلحة والبلطجة، كما حدث في كثير من مناطق بلاد الشام.

معضلة تحديث الدولة أنها كانت بقوالب إدارية أوروبية، مآله النهائي دولة قومية، مركزية، في إمبراطورية هي في الواقع أكبر من أن تكون “دولة قومية”، وأوسع من أن تكون “دولة مركزية”. فحدث تصادم مبكر بين الحاجة للإصلاح ونظام الإصلاح. في النهاية اختار السلطان محمود الثاني، منهج الانفتاح، الذي كان يعني حينها بناء دولة على الطراز الأوروبي، واستكمل النهج ذاته من بعده السلطان عبدالمجيد، الذي كان ثمن إنقاذه في حرب القرم (1853 – 1856)، إصداره مرسوماً إضافياً لمرسوم التنظيمات الخيرية (كلخانه) وهو المرسوم الهمايوني، الذي انتشر له اسم آخر في كردستان وهو “الدستور الأرمني”، في دلالة على بدء مرحلة انحيازات مكشوفة للدولة في نظر السكان الذين باتوا يدفعون ضرائب أكثر، ويتعاملون مع موظفين مدنيين، بدل العسكريين في النظام السابق، لكن هؤلاء المدنيون سرعان ما غرقوا في فساد أشد هولاً، وتفاقمت الضرائب على الفقراء، واتسعت حروب الدولة مع تراجع عدد السكان في القرن التاسع عشر، وباتت القرارات المهمة في الولايات البعيدة تتطلب موافقة الباب العالي، فيستغرق شهرين وسطياً إلى أن يتم البت النهائي فيها.

الأمة الإسلامية

مع نجاح عبدالحميد الثاني في التحكم بأدوات العنف – الحكم في الدولة، ارتسمت ثلاثة خيارات متعارضة، لماهية الدولة، متفاوتة في درجة القوة.

1- القومية الإسلامية

2- القومية العثمانية

3- القومية التركية

كان القالب الإصلاحي للدولة يدفع بالنظام نحو “الدولة الأمة” فيما السلطة المركزية تعيش فوضى التطبيق، وتآكل الولاء للدولة من قبل القطاع الأوسع من السكان.

في كردستان، أدى تعيين الدولة للولاة على الكرد، بدلاً من السلالات الكردية التاريخية، وعدم نجاح هؤلاء المركزيين في تقدم أفضل مما كان يقدمه الأمراء السابقون، إلى اهتزاز شرعية الدولة داخلياً، فضلاً عن منح الدولة أفضلية في ثمار الإصلاح للأرمن، الذين – رغم قوتهم – إلا أنهم ما كانوا سيصمدون طويلاً أمام نقمة شعبوية كردية كانت تلوح في الأفق. فزادت التوترات وباتت على وشك الانفجار اجتماعياً لولا إيقاف السلطان عبدالحميد الثاني مسار التحديث الهمايوني، عبر طريقة مربكة أيضاً في إدارة التعددية الامبراطورية، فلجأ إلى دعم قيادات اجتماعية كردية وشركسية وأرناؤوطية، في الداخل، ضد الرعايا المسيحيين الذين تعهدت فرنسا وبريطانيا وروسيا بحمايتهم. صحيح أنه أوقف العمل بالدستور الذي أصدره، مؤقتاً، ثم تعايش مع الهزيمة المدوية في الحرب مع روسيا عام 1878، ثم التوقيع على معاهدة “سان ستيفانو” المذلة، لكن هذه التطورات أدت إلى أن تصبح الدولة رهينة بشكل أكثر من أي وقت سابق، في أيدي بريطانيا وفرنسا. كان الوقت قد فات لإيقاف المسار الذي رسمه جدّه محمود الثاني، ووالده عبدالمجيد الأول. ولم تنشأ حركة إصلاح ذات جذر عثماني، فبقي الخيار أمام عبدالحميد إما الذهاب مع الإصلاحيين ذوي الثقافة الفرنسية، أو تقوية الرجعيات الداخلية لتعطيل مسار انتقال الدولة من الطور الامبراطوري إلى “الدولة القومية”. وهو اختار تقوية النزعة المحافظة، غير العلمية، دون أن يضفي عليها صفة شرعية تمثيلية حتى، ما عدا ميليشيات الكتائب الحميدية. فكانت هذه الصيغة منتجة لـ”القومية الإسلامية” داخل الدولة، والتي كانت في موقف هجومي أحياناً ودفاعي أحياناً أخرى، تجاه القوميات المسيحية، خصوصاً أن الصيغة التدخلية للدولة الأوروبية قد عبثت بالرتابة التعايشية على مدى قرون، وخلقت أوهاماً لدى جزء كبير من الشعوب المسيحية أن خلاص هذه الشعوب يتوقف على قرار محلي لهم بالثورة لأن الخارج جاهز لتحويل ثورتهم إلى مكاسب استقلالية.

القومية العثمانية

مرّت فكرة القومية بأطوار متوازية من الطروحات الإصلاحية، منها ما ظهر لدى تنظيم “العثمانيون الجدد” بقيادة نامق كمال، رائد “القومية العثمانية”. ما قدمه نامق كمال كان رؤية أكثر منه نظرية. فالقومية العثمانية محاولة محلية، لم تتكرر، في إيجاد حل لمعضلة إدارة التنوع الداخلي بالتوازي مع تحديث الدولة الذي لا رجعة عنه وفق طراز الدولة الأمة، لأنه لم يظهر نموذج غيره ناجحاً في ذلك الحين حتى يتم تقليده. الفكرة تفترض مساواة بين الرعايا المسلمين والمسيحيين واليهود ضمن توليفة قومية تصنعها الدولة من الأعلى تحت حكم آل عثمان. وهو – نامق – كان ذو نزعة تركية في الشعر والأدب، وألهم العديد من القوميين لاحقاً، مثل مصطفى كمال وخالدة أديب، ولم ينل إعجاب السلطان عبدالحميد الثاني الذي وصفه في مذاكرته بأنه شخص يعيش حياتين مزدوجتين دون أن يدري، رغم ذلك أثنى على خلاف نامق مع مجموعة مدحت باشا، الأكثر تغريباً.

خلال جهوده لإحباط الامتيازات الممنوحة للغرب، ظهرت معضلتان ذو نتيجة كارثية. فقد ازدادت ثقة الأرمن بأنفسهم كقومية لها قوة داخلية مسلحة، وعين غربية وروسية تحرص عليها. في المقابل، عمل عبدالحميد على إفشال ما وجد أنها نزعة استقلالية أرمنية داخل الدولة، بمعنى أنه رأى مبكراً فشل فكرة “القومية العثمانية”، فعمل على تدعيم موقف الجماعات المسلمة المجاورة للأرمن، خوفاً من هجوم أرمني على الدولة من جهة الجبهة الروسية، وقد حدث شيء من هذا القبيل في أعوام 1894 – 1896 وانتهت بمذبحة للقوات المسلحة الأرمنية على أيدي تحالف “الأمّة الإسلامية”. 

الفكرة القومية

كان بداية تأسيس جمعية الاتحاد والترقي إحياء للفكرة العثمانية في إطار من الفلسفة الوضعية المتطرفة، إلا أن الفكرة لم تتأقلم مع “العثمانية” من حيث التاريخ. فكانت الجمعية تبحث القطع مع الماضي العثماني، والبدء من جديد، تحت الاسم ذاته. بعد عام 1906، حدث اضطراب داخل الجمعية بسيطرة العناصر المؤيدة للطورانية وتتريك الامبراطورية كاملة، وخرجت العناصر غير الطورانية، في مقدمتهم اثنان من المؤسسين الستة، هما الأكاديميان الكرديان عبدالله جودت واسحاق سكوتي.

لكن الفكرة القومية تحتاج إلى عدّة أكاديمية مشغولة وجاهزة، ومتكاملة، سواء بالاختلاق أو الاجتهاد أو الوقائع، ولم تكن المجموعة الطورانية تمتلك هذه العدّة حين تأسست جمعية الاتحاد والترقي نحو 1894 في باريس، لكن في باريس نفسها باتت هذه المجموعة تحت تأثير ثلاثة مفكرين تتبع نتاجاتهم، الباحث نيازي بيركيش في كتابه “تطور العلمانية في تركيا”.

 أولهم ديفيد ليون، فقد قدم قراءة تاريخية صادمة حتى للقوميين العثمانيين، أمثال نامق كمال، معتبراً أن المغول (الذين وصفهم بالأتراك) بناة أهم امبراطورية في التاريخ، وجنكيز خان (التركي) أعظم قائد في التاريخ.

الثاني هو آرثر لوملي دافيدز، الذي حاجج في كتابه “قواعد اللغة التركية” على الاتصال التاريخي الاجتماعي بين اللغة التركية والشعوب التركية منذ القدم وحتى عهد محمود الثاني. وانتقد الكتاب الأوروبيين والأتراك على تمييز التتار عن الأتراك، فهم برأيه “أتراك” ولغتهم “تركية”. وقامت أمه بترجمة الكتاب بعد وفاة آرثر، وقُدِم هدية إلى السلطان محمود الثاني.

المفكر الثالث، أرمينيز فامبيري، (1832- 1913) وأجرى أبحاثاً اجتماعية ولغوية في الصلات الاثنية بين شعوب آسيا الوسطى وأتراك آسيا الصغرى. وهؤلاء الثلاثة، هم من يهود أوروبا.

فرصة مهدورة

بعد مرور أكثر من /100/ عام على النهاية الفعلية للدولة العثمانية، تعيش الدول الناشئة من تفكك المدار العثماني في مجزرة دموية متواصلة، ما زالت مستمرة.

 لقد كان المدار العثماني الجغرافي فرصة نهضوية لم تُهدر فقط، بل تحولت إلى ماكينة إجرامية أودت بجوهرة العثمانية على مدار قرون طويلة، وهو إدارة التنوع والتعدد للأقوام داخل الدولة ذات النزعة التوسعية، لكن أيضاً تميّزت العثمانية أنها الدولة القابلة للتقلص والانكفاء دون تداعيات كارثية، فالدولة تتفهم الانكفاء طالما بقي الجسم الأساسي للدولة متماسكاً، وهو البلقان والأناضول وكردستان وأرمينيا المحاذية لروسيا.

بمراجعة لبعض المؤلفات الأعمق والأشمل حول دراسة ظاهرة القومية والدولة الأمة، من بندكت أندرسون (الجماعات المتخيّلة) إلى إريك هوبزباوم (الشعوب والقوميات منذ 1780) و أفيل روشفيلد (القومية العرقية)، وغيرهم، يبحث المرء عن شيء في كل الأفكار المطروحة، التعريفية، لا يكون مساره وضع قنبلة بين منزلين متجاورين لناطقين بلغتين مختلفتين. لا يوجد.