“مشايخ الكرامة” الآتون من الغياب

هلال أبو حامد

لم تكن سوريا قد شهدت تاريخ “الأمّة”، فالقبضة المركزية للدولة البوليسية لم تكن كافية لإنتاج “أمّة”، وإذا ما ذهبنا أبعد من ذلك، فلقد كشفت وقائع وتداعيات “الثورة السورية”، عن تشظّي البلاد إلى دويلات، وصفها الطيب تيزيني متبنئاً قبل عشرين عاماً بـ”المتجاورة المتناحرة”، وهو الشرخ الذي تبدّى في سوريا ما بعد 2011 حتى بات أمراً مسلّماً به، من نماذجه أن تستوطن مجموعات من الغوطة منطقة عفرين طاردةً مواطنيها من موطنهم.

كان الحديث عن الطوائف في سوريا مُحرّماً، لا لاستبعاد الطائفية عن البلاد، بل لإدارة الظهر عن حقائق لا تلغيها إدارة الظهر، بل تلغيها إرادات الناس التي يمكن التعبير عنها بديناميات الأسواق (ففي الأسواق تنشأ أمم).

الخيار الديمقراطي الذي يعني البرلمان والنائب المنتخب والسلطة التي تمثّل السكان، جميع السكّان، وبأصوات السكّان وخياراتهم.

وكذلك بالأخذ بالاعتبار للخصوصيات السكّانية التي تعني الثقافة والعقائد والعادات والتقاليد وما يحمله التاريخ الخاص لهذه المجموعة السكانية أو تلك.

كان التغافل عن الحقيقة الحقيقية والتحايل عليها بالشعارات (وهو تغافل تقاسمته السلطة والمعارضة الناشئة) قد عمّق المشكلة، أقلّه بتجاهل المشكلة، فالبلد شعوب وليست شعباً واحداً، وهذا لا يسئ إلى تاريخ الدولة وحقيقة الدولة، فثمة دول عظمى بشعوب متنوعة الثقافات والخصوصيات، وليست الولايات المتحدة سوى التعبير عن ذلك، ولولاه لكانت البلاد لواحد من اثنين: الهنود الحمر، أو الغزاة الإسبان.

الدروز في الخيارات المركّبة

للطائفة الدرزية ما لسواها من خصوصية ثقافية بل وعقيدية، وفي جزءٍ من هذه الخصوصية، التعبيرات الأخلاقية لهذه الطائفة التي تعطي مساحة كبرى من وعيها للشعارات الأخلاقية، من مثل: الكرامة.

حين اندلعت “الثورة” في سوريا، واجهت هذه الطائفة مشكلة مركبّة: “الالتحاق بالثورة” أو “الالتحاق بالسلطة” أو “النأي بالنفس”.

وكلها خيارات صعبة، بل وكفيلة بأن تشقّ هذه الطائفة، لتتحوّل إلى حرب درزية-درزية، تبعاً لتعدد ولاءات السكان السياسية.

الآتون من الغياب.. من يملأ الفراغ

في هذه الفترة، كانت السويداء بلا أيّ مرجعية سياسية، دون نسيان أن السلطة بتعبيراتها ومؤسساتها لم تكن في يوم من الأيام مرجعية، بالقدر الذي كانت فيه قوّة مهيمنة على الناس، لا تقيم اعتباراً لا لخبز الناس، ولا لثقافة السكان، وكان الفراغ السياسي هو الصيغة الأكثر وضوحاً في المجتمع الدرزي، فلا أحزاب (خارج الإطار الحكومي)، ولا حركات نقابية يُعتدُّ بها، ولا حتى ملتقيات شبابية كما حال الأندية أو المراكز الثقافية.

باختصار، كان الدروز كما لسواهم من السوريين: “الوقوف على بوابة الفراغ”، وليس من بديلٍ جامعٍ لإملاء الفراغ سوى “المجلس” وهو مكان العبادة لأبناء المذهب.

“المجلس” كان “المكان”، وليس ثمة مكان آخر يجمع الناس، وكان المدّ الديني، قد اجتاح سوريا، كلَّ سوريا، وخلقَ اصطفافات هي في جزءٍ كبيرٍ منها اصطفافات طائفية، أكثر مما هي وطنية.. اصطفافات بتنويعاتها شملت كلَّ سوريا، عمقّها الخطاب الديني لجماعة الإخوان واشتقاقاتها، واستثمرتها السلطة أيّ استثمار.

كان خيار الدروز على عمومهم، وربما بأكثريتهم، الخيار الوطني، وهو الخيار الذي لم يكن ممكناً في الاصطفافات التي شهدتها البلاد، وفي مآل الجيش الذي يمثّل الوطنية الجامعة، وقد تحوّل إلى جيش بمواجهة السكان، ما يعني البحث عن صيغة لا يذهب فيها الشباب الى حربٍ أهلية، يعلمون بالتمام والكمال أنها ستكون نهاية أطرافها.. كلِّ أطرافها. وكانت المقولة الأشهر: لا تحلبنوا السويداء (أي لا تجعلوها دماراً كما حلب).

 أمام هذه الحقيقة، كان للسويداء خيارٌ، بقدر ما هو واضح، لا بُدَّ ويكتنفه الغموض: الحياد.

وأي حياد ممكن؟

الامتناع عن الخدمة الإلزامية في صفوف الجيش، وهو قرار سينقل السويداء إلى الضفة الثانية من الصراع بمواجهة السلطة.

وكان السلاح…

لحماية هذا القرار كان لا بُدَّ من السلاح، والمجموعة الوحيدة المتماسكة والتي لها جسمها الواضح الصريح، كانت مجموعة رجال الدين ومعظمهم من الشباب (ما بين /20/ الى /40/ سنة)، الذين كانوا في واقع التصادم مع المرجعية الدينية المتمثّلة بمشايخ العقل، وهي مجموعة تستمد وجودها من السلطة، كما حال كل المؤسسات الدينية في سوريا، وفي ذات الوقت كان أمام هذه المجموعة الاصطدام بقوات السلطة.

كان يقود هذه المجموعة شاب “كاريزمي” يدعى فهد البلعوس، وهو شخصية قيادية، خطيب، ويمتلك الكثير من المناقبية التي تشدُّ الدروز وتمسك بالعصب الدرزي مثل: الشجاعة، واللغة.

أما اللغة، فهي اللغة “الشعبوية” التي تحاكي الماضي البعيد، ليعزز بذلك من خصوصية حركته، التي أطلق عليها: مشايخ الكرامة.

لم يسمِّها حركة الحريات أو حركة الخبز.

الكرامة، وإن بدت لغة فضفاضة، فقد كانت جامعةً للكثير الكثير من الجمهور، حتى انفردت هذه الحركة بالتنظيم والسلاح، وربّما بالمال.

امتحان الحركة:

كان الامتحان الأصعب على هذه المجموعة يوم أعلنت النفير العام بعد الهجوم الذي شنّه تنظيم الدولة الإسلامية وأسفر عن سقوط العديد من القتلى واختطاف العشرات.

في ذاك اليوم، دعا الفصيل كافة الفصائل المقاتلة في السويداء بمختلف مسمّياتها إلى الوقوف صفاً واحداً والابتعاد عن جميع الخلافات ورفع الجاهزية للذود عن الأرض والعرض.

وأكد الفصيل أنه سيعمل على استعادة المدنيين المختطفين من قبل عناصر التنظيم.

كانت السويداء قد تعرضت لمسلّحين استهدفوا مدينة السويداء من ثلاثة محاور هي وسط المدينة، والريف الشرقي للمحافظة في قرى طربا والكسيب والغيضة والشبكي والشريحة، والريف الشمالي الشرقي في قرى المتونة والسويمرة وعراجة وتيما.

ووقعت الهجمات في مدينة السويداء، التي تسيطر عليها الحكومة، وما حولها، وأعلن تنظيم الدولة الإسلامية المسؤولية عنها.

مواقع سورية معارضة أشارت إلى نقل المئات من عناصر التنظيم من جنوب دمشق إلى بادية السويداء إبان تلك الفترة، في إطار اتفاق غير رسمي مع الحكومة السورية، وسحب الجيش السوري لجانب كبير من قواته من المنطقة ليدفع بها إلى محافظة درعا المجاورة.

مع هذا الحدث، كان ثمة رأي عام في السويداء يقول بأن السلطة هي من أرسلت هؤلاء الإسلاميين إلى السويداء، وكان لهذا ارتداد واضح يمكن اختزاله بما يلي: السلطة خصمنا بصفتنا مواطنين، والإسلام المتطرّف خصمنا بصفتنا دروز.

 هذا الأمر عزّز قوة التيار الديني في المحافظة، وليس هو العامل الوحيد بطبيعة الحال، فغياب الحياة السياسية خمسة عقود عن البلاد، سيفسح بالطريق للقوى الدينية، وبالتالي لـ”شيوخ الكرامة”.

 وكان السؤال: من هي قوات “مشايخ الكرامة”؟

فيما يلي أبرز المعلومات عن “مشايخ الكرامة”:

تأسست قوات مشايخ الكرامة عقب اندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام 2011 للدفاع عن دروز السويداء.

يصرُّ فصيل مشايخ الكرامة منذ بدايته على اتخاذ موقف محايد من الأزمة السورية رافضاً الانحياز لأيّ طرف.

خاض الفصيل معارك شرسة ضد تنظيم الدولة وجبهة النصرة.

وصفت روسيا قوات مشايخ الكرامة بأنها إرهابية.

وبالنتيجة، وقف “مشايخ الكرامة” مقابل مجموعة من مشايخ العقل الذين اتخذوا موقفاً واضحاً مع النظام منذ اندلاع “الثورة السورية”.

اختار وحيد البلعوس أو كما يلقّبه أهالي السويداء “أبو فهد”، موقفاً أقرب للوسط بين المعارضة والنظام، لتتكرر مجموعة من الحوادث مع النظام فترسم شكل علاقة جديد بين تلك المجموعة التي ولِدت في السويداء، وشكّلت حالة اجتماعية غريبة عن المنطقة، وبين نظام لا يفرّق بين من والاه ومن عارضه.

وكان مقتل البلعوس

في الشهر التاسع من 2015، كان الانفجار الأول الذي أصاب موكب الشيخ أبو فهد وحيد البلعوس، وتسبّب في مقتله، في حين أن انفجار السيارة المفخخة الثانية الذي ضرب المجتمعين في باحة المشفى الوطني في السويداء، أودى بحياة /20/ شخصاً، منهم قياديو الصف الأول في حركة “مشايخ الكرامة”.

كان الاعتقاد العام بأن الانفجارين وضعا حدّاً فعلياً لتطوّر حركة “مشايخ الكرامة”، وأوقفا الزخم الذي كانت تعيشه، غير أن ما حدث لم يكن كذلك، فالمرئي من الحركة أنها قادرة على توليد قيادات جديدة، وكان أن ولِدت قيادات جديدة، تمجّد قائدها السابق، وتصيغ شكلاً من الإدارة الذاتية دون العمل على توطيد شخصية جديدة بحجم البلعوس، (ربما بفعل عدم امتلاكها لشخصية كارزمية كما قائدها المؤسّس)، وهكذا انتقل الاسم من (البلعوس) إلى (المشايخ)، وكان أن اشتد عود الحركة بعد مجموعة مواجهات، مع مجموعة مخاطر: المخاطر تمثّلت في التواجد المسلّح لـ”داعش” في المناطق الشرقية من السويداء، كما المخاطر القادمة من الإسلام الراديكالي في درعا، كما مجموعات التصالح الوطني ذات الأصول المتشددة، وهؤلاء تحوّلوا إلى الغطاء الروسي الذي يعادي السويداء تأييداً للنظام.

أما المواجهات فكانت بشقين:

 أولاً: مواجهة النظام:

ومن الأمثلة أن قوّات النظام كانت قد أُجبرت على الخضوع لتهديدات “شيوخ الكرامة” بالإفراج عن معتقلين، كما حماية الشباب الرافضين للخدمة الإلزامية.

وربّما كان الاصطدام الأكثر إثارة ما بين حركة المشايخ والسلطة هو الاصطدام الذي حصل خلال الانتخابات الرئاسية الماضية، حين أجبر الأمن امرأة تعاني من اضطرابات عقلية من السويداء على حمل صورة بشار الأسد والرقص بها، عندها تدخل الشيخ البلعوس وعدد من رجاله وقاموا بتكسير الخيمة الانتخابية. وفيما بعد كانت ما سُمّيت بمعركة “داما” بمثابة المفصل الذي حدد شكل العلاقة بين البلعوس والنظام، تلك المعركة التي قاتل فيها البلعوس إلى جانب قوات النظام ضد جبهة النصرة، بعد دخولها قرية داما ودير داما، حيث تم طرد النصرة منها. وبعد انتهاء المعركة اتهم الشيخ وحيد قوات النظام بخيانته والغدر به وإطلاق الرصاص على رجاله من الخلف؛ ما أدى لمصرع خمسة منهم.

 ثانياً: مواجهة “داعش” و”النصرة”:

 وبذلك تحوّلت الحركة إلى أن تمتلك “الشرعية الشعبية” في غياب أيّ من الشرعيات الأخرى: لا شرعية الحكومة، ولا شرعية الثورة.

ثالثاً: المواجهة مع المؤسسة الدينية الرسمية (شيوخ العقل)، وكان هؤلاء بمؤسستهم، قد رموا “الحرم الدرزي” على الحركة وأنصارها، و”الحرم” هذا هو من أقسى العقوبات التي ينالها الدرزي فوفقاً للحرم: يحرّم أكل زاد المحرّم أو دخول بيته أو الزواج منه، أو حتى الصلاة على جنازته.

اتسعت جبهات “مشايخ الكرامة”، مع ذلك يقوون يوماً وراء يوم حتى باتوا اليوم، ربما المرجعية الأكثر حضوراً في صفوف الجمهور، بعد أن أسقطوا المؤسسة الدينية الرسمية إلى حضيض الحضض.

حركة تتطلّب الكثير من التأمل، في واقعٍ بالغ التعقيدات.