لوَّح الأوروبيون بالعصا الغليظة في وجه السلطان أردوغان بعد أن هدد الأخير بإعادة رسم الخرائط في شرقي المتوسط، كما أدرك الأميركي خطورة الرقص التركي في بحري المتوسط وإيجه، فتحرك نحو جزيرة كريت اليونانية ملوّحاً بإمكانية توديع قاعدة إنجرليك، رمزه العسكري التاريخي بعد الحرب العالمية الثانية (…) فأدرك السلطان صعوبة المعركة وفداحتها، وعليه وجَّه بوصلته نحو ناغورنو قره باغ (آرتساخ)، حيث الصراع بعمق التاريخ، وسواد الجبال العالية، وحضور آلهة الغابات، ودماء الإبادة الأرمينية التي ما زالت حيّةً، في قضية تترواح بين المطالبة الأرمنية بإقرارها وإنكار أنقرة لها.
لم يكن ينقص السلطان سوى تحديد ساعة إشعال المعركة في هذه الأرض المفتوحة على المصالح الدولية والصراعات المتداخلة، فالرجل أعدَّ المسرح هناك جيداً، حيث أجرى قبل أسابيع مناورات مع أذربيجان، وأمدَّ الأخيرة بمعدات وأسلحة متطورة ولا سيما الطائرات المسيّرة، كما أرسل مرتزقة سوريين إلى هناك بعد أن أصبح هؤلاء وقوداً لحروبه التي لا تنتهي، وهكذا انطلقت الصواريخ والدبابات والطائرات بكثافة صوب مدن آرتساخ (…) في معركة تقول باكو وأنقرة أنها لن تتوقف إلا باستعادة السيطرة الأذرية على كامل قره باغ (آرتساخ)، فيما أشعر كثافة النيران الأذرية-التركية أرمينيا بشبح إبادة جديدة، إذ إنها تدرك أن من يقف خلف هذه الحرب وقرارها، هي تركيا أردوغان الذي هدد من منطلق أيديولوجيته العثمانية أرمينيا مراراً بالويلات، وهو الذي نشر الحروب والقتل والإبادة في رقعة جغرافية باتت تمتد من ليبيا غرباً، إلى أرمينيا شرقاً، مروراً بسوريا ومناطق كردستان في تركيا وإقليم كردستان العراق.
أمام التأكيد التركي والأذري بأن الحرب لن تتوقف إلا باستعادة كامل قره باغ إلى سيطرة أذربيجان، لا يبدو أمام أرمينيا سوى المقاومة حتى النهاية، وفي الأساس هذه الجولة الجديدة من الحرب ليست الأولى بين البلدين، إذ إن عمر هذا الصراع يعود إلى قرنٍ من الزمن، أخمده ستالين حين ألحق آرتساخ ذات الأغلبية الأرمنية بأذربيجان، وعلى دربه سار القادة السوفيت من بعده، إلى أن تفجّر الصراع من جديد مع انهيار الاتحاد السوفييتي، حين أعلن أهالي آرتساخ الاستقلال عن أذربيجان بدعم أرمني، فتفجّرت حرٌب دموية، أسفرت عن مقتل عشرات الآلاف من الجانبين وتهجير مئات الآلاف، إلى أن نجحت منظمة “مينسك” في دفع الطرفين إلى التوقيع على اتفاق لوقف إطلاق النار عام 1994، لكن الثابت أن هذه الحرب رسّخت من النزعة العرقية-القومية في ظل اختلاف حضاري وديني بينهما، كما أبقت النار تحت الرماد، وبدا أن توقيت إشعالها بيد أردوغان.
السؤال الجوهري في هذه الحرب هو، ماذا يريد أردوغان منها؟ والأهم ماذا عن الموقف الروسي؟ وكيف يمكن أن نفهمه؟ وكيف يمكن أن يتطور؟ في الواقع، يمكن القول إن لأردوغان جملة أهداف مهمة، لعلَّ أهمها:
- خلط الأوراق الإقليمية والدولية بعد أن رأى أن المضيّ في التصعيد بشرقي المتوسط أكبر من طاقته وبات مكلفاً له.
- كسر إرادة أرمينيا التي تمسّكت بدعم جمهورية آرتساخ وبالمطالبة بضرورة إقرار تركيا بالإبادة الأرمنية، فالصراع التركي مع أرمينيا له أبعاد تاريخية وسياسية في استراتيجية أرودغان تجاه القوقاز.
- التلويح للغرب بأن تركيا ما زالت قادرةً على القيام بدور الشرطي الوظيفي في مواجهة روسيا كما كانت أيام مرحلة الاتحاد السوفييتي، حيث في صلب استراتيجية أردوغان مقايضة ما يجري في القوقاز بتقديم روسيا تنازلات لها في سوريا وليبيا، ولا سيما بعد تسريب موسكو رفض عرض تركيا صفقة مفادها السماح لها بالسيطرة على منبج وتل رفعت في شمالي سوريا مقابل القيام بإجراءات في مناطق بجنوب إدلب.
- التلويح لموسكو بأن تركيا يمكن أن تشكّل رسالة ضغط على الحكومة الأرمنية الجديدة بزعامة نيكولا باشينيان بعد أن أبدى الأخير سياسة ليبرالية منفتحة تجاه الغرب والحلف الأطلسي، وهو ما أحدث فتوراً في العلاقة الروسية-الأرمنية المتينة عبر التاريخ.
- ضمان مشاريع الطاقة وخطوط إمدادها من قزوين إلى تركيا حيث تصل إلى أراضيها ثلاث خطوط طاقة من القوقاز، ولعلَّ أردوغان يفكر بالتخفيف من الاعتماد على مصادر الطاقة من روسيا وإيران بسبب ارتفاع أسعارها مقارنةً بأسعار الطاقة من القوقاز.
أمام هذه الأهداف، تبدو الحرب طويلة ودموية ومعقدة، وهنا تتجه الأنظار إلى موقف روسيا التي ترتبط بعلاقات عسكرية وأمنية واقتصادية قوية مع أرمينيا، لطالما شكّلت الأخيرة حليفاً استراتيجياً لها في منطقة مفعمةٍ بالمصالح والصراعات التاريخية والإقليمية.
وهنا ثمة من يرى أنه لا بُدَّ من التوقف على أمرين:
الأول: أن بوتين يريد رسالة ضغط ولو عبر تركيا على الحكومة الأرمنية الجديدة لكبح توجهها نحو الأطلسي والإبقاء على قواعد العلاقة التقليدية معها.
الثاني: أن روسيا ستكتفي في المرحلة الحالية بدور الداعي إلى الحوار والاستعداد للقيام بدور الوساطة إلى أن تحين اللحظة التي ينبغي أن يقوم فيها بدور المنقذ لأرمينيا، إذ إن روسيا لن تسمح لتركيا في النهاية بتحقيق انتصارات كبيرة على حسابها في هذه المنطقة الحساسة لها، وهي في ذلك تريد وضع الحكومة الأرمنية أمام خيار وحيد، وهو العودة إلى حضنها بوصفها اللاعب الوحيد القادر على حمايتها من هزيمة محققة أمام تركيا وأذربيجان بحكم اختلاف موازين القوة، ولا سيما أن الإدارة الأميركية لا تبدو مستعدة للتدخل بحكم انشغالها بالانتخابات الرئاسية واستحقاقاتها إلى حين قدوم رئيس جديد إلى البيت الأبيض في العام المقبل.
في انتظار اتضاح الموقف الروسي، تبقى إيران لاعباً إقليمياً معنيّاً بالصراع الجاري، وهي في سياستها أقرب إلى أرمينيا من أذربيجان رغم أن معظم سكان الأخيرة من الشيعة، فإيران تدرك أن شيعة أذربيجان مختلفون من جهة العقائد عن شيعة العراق ولبنان والبحرين (…) وأن لهم توجهات قومية علمانية تعارض توجهاتها الدينية والطائفية، وأن لأذربيجان علاقات قوية مع إسرائيل، وأن في داخل إيران أقلية أذربيجانية كانت لهم جمهورية عام 1945، وأن لديهم توجهات قومية ستقفز إلى الطاولة إذا انتصرت أذربيجان في هذا الصراع، لذا تنشط طهران دبلوماسياً لإحلال التفاوض من أجل اتفاق مقبول لا انتصار أذري-تركي يرخي بظلاله على داخل إيران وسياستها ومصالحها في القوقاز.
من الواضح أن حسابات أردوغان في القوقاز لا تبدو دقيقة، كما كان الحال في سوريا وليبيا وقنديل وشرقي المتوسط، فحجم طموحاته الجامحة تصطدم بمقاومة الشعوب وحقوقها المشروعه، ومشروعه التوسّعي في القوقاز يصطدم بالمصالح الإقليمية والدولية، ورغم كل هذا، فإن استراتيجيته التصعيدية قد تفضي إلى مجازر جديدة ضد الأرمن لطالما يشترط وقف الحرب بسيطرة باكو على كامل آرتساخ، وهو ما يضع الأرمن في معركة وجودية صعبة، كما يضع القيصر بوتين في امتحان مع السلطان العثماني الجديد، فالمعركة بالنسبة لهما تتجاوز أرمينيا إلى جورجيا وأوكرانيا وغيرها من البلدان التي تشكّل دوائر صراع بين الامبراطوريتين العثمانية والروسية عبر التاريخ.