الشرق الأوسط في خارطة تبادل الأدوار

 

د. أحمد يوسف

 

حلَّ الموقع الجغرافي المثقل بضعف الرؤى التطويرية في الشرق الأوسط وبالاً على شعوبها، وجعل من المنطقة الاستراتيجية في الجغرافيا العالمية هدفاً لنفوذ القوى الدولية على مر تاريخها القديم والحديث، وضحيةً لمصالحها المتجددة والمناقضة قطعياً لمصالح تلك الشعوب التي توارثت منظومات قيمية، سمتها اللجوء إلى عراقة الماضي المرسوم في ذهنية حامليها، في حضرة غياب المؤكدات العلمية لتلك السمة وما يترتب عليها من مظاهر تجدد الدعوات إلى القديم دون الاكتراث بحقيقة قوة التغيير القادمة من كل أقطاب الأرض ليغير ما يجب تغييره لخدمة تلك الأقطاب، وليثبت ما يجب تثبيته حفاظاً على الهيئات المتحكمة ذهنياً بالشرق الأوسط المترنح ما بين حداثة الفكر الاستثماري والاستغلالي القادم من الخارج، حاملاً معه موجبات التغيير، ونمطية الفكر المتوارث في الداخل والحامل لجينات الجمود الفكري والعقائدي. 

 

بين هذا وذاك، بات الصراع العالمي على هذه المنطقة أسير تجاذبات القوى العظمى، الخاضعة هي الأخرى لتغيير الأدوار والنفوذ تبعاً لحجم كلٍ منها. ويبدو من متابعة خارطة النفوذ العالمية أن شكل الصراع الجديد في المنطقة سيتخذ صراع النفوذ الأمريكي- الصيني سمةً بارزة في المرحلة القادمة، مع التوقعات بانحسار نفوذ الأول وتوسع نفوذ الأخير.

 

انحسار النفوذ الأمريكي

 

لم يكن ظهور الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى في الساحة الدولية إلا نتيجةً للحرب العالمية الثانية وما تمخضت عنها من نتائج كارثية على القارة الأوروبية وهجرة رؤوس الأموال إلى الولايات المتحدة خلال الحرب وما بعدها. لقد أجادت الولايات المتحدة استثمار التغيرات الجوهرية في توازن القوى الدولية، وعملت على بناء المؤسسات الاقتصادية والمالية التي تضمن لها الدور القيادي لمنظومة الاقتصاد الرأسمالي في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية مستفيدةً من صراع القطبين الاشتراكي والرأسمالي الذي انتهى مع بداية العقد الأخير من القرن العشرين. واستطاعت قيادة كتلتها على الرغم من العديد من المشكلات الاقتصادية والمالية التي واجهتها خلال مسيرتها في النصف الثاني من القرن العشرين. ولم تواجه أية مصاعب جدية بقدر ما تواجهها اليوم من القوى الاقتصادية القديمة منها أو الحديثة النشأة.

 

عوامل تراجع الدور الأمريكي

 

لقد تراجع الدور الاقتصادي للولايات المتحدة بتأثير مجموعة من العوامل، ولعل أهمها:

 

a.    تأثيرات الأزمة المالية العالمية على القدرة الإنتاجية والتصديرية للولايات المتحدة، وقد أدت هذه الأزمة إلى حدوث خسائر في إجمالي الناتج المحلي الأمريكي في عامي 2008 و2009 تقدر بمبلغ /650/ مليار دولار، وهي تعادل مبلغ /5800/ دولار أمريكي لكل عائلة أمريكية. ولا شك أن تلك الأزمة أدت إلى وقوع الاقتصاد الأمريكي في حالةٍ صعبة أمام المنافسة الخارجية لباقي أطراف السيطرة العالمية.

 

b.    تباطؤ عمليات تطوير الصناعات المدنية مقارنةً مع أقطاب الرأسمالية العالمية الأخرى، سيما الرأسماليتين الصينية (التي حيرت الغرب) والأوروبية وتليها الرأسمالية اليابانية، وكذلك الرأسمالية المجاورة لها في الأمريكيتين الوسطى والجنوبية وتأتي في مقدمتها البرازيل، التي يتوقع لها أن تحتل مكانةً متقدمة جداً بين قوى التنافس العالمي، وسيكون لها تأثير واضح على القوة التنافسية للولايات المتحدة في الأسواق العالمية.

 

c.    نمو قوى اقتصادية جديدة، لم تكن تحسب يوماً ضمن القوى الاقتصادية العالمية، والتي تسمى اليوم بالاقتصادات الناشئة. مثل دول النمور الآسيوية إلى جانب الدور المتنامي للاقتصاد الهندي ودول اقتصادات التحول التي كانت ملحقة بالاقتصاد السوفيتي لغاية العقد الأخير من القرن العشرين.

 

إن الأثر الجمعي للعوامل السابقة على الاقتصاد الأمريكي يصل إلى مرتبة خلق التحدي الواضح له، ويوضح أن الولايات المتحدة الآن تقع في مفترق الطرق، فإما أن تترك تلك القوى في حالة نمو وتوسع حصتها في الأسواق العالمية، وبالتالي انحدار المكانة الاقتصادية والسيادية لأمريكا وتراجعها أمام تنامي القوى المنافسة لها، أو أن تعتبر نمو القوى المنافسة لها تهديداً للأمن القومي الأمريكي، وهذا ما نتوقعه استناداً إلى المعطيات السلوكية للولايات المتحدة الأمريكية في القرن العشرين. فقد كان تدخلها في الحرب العالمية الثانية عبر استخدام القوة المفرطة ضد دول المحور لإنهاء الحرب واستلام الدور الاستغلالي من الرأسمالية الأوروبية.

 

توسع النفوذ الصيني

 

إنها المعجزة الآسيوية، تلك الدولة الصارمة في قواعد عملها السياسي والأقرب إلى الليبرالية في قواعد عملها الاقتصادي. انطلقت نحو العالمية بصورةٍ فاجأت الدول الغربية، واستحوذت على حصة كبيرة في الأسواق الخارجية، عبر تطبيق سياسة إقامة وتطوير علاقات الصداقة والتعاون مع جميع البلدان.  فهي تهدف من سياساتها الخارجية إلى منح الأولوية للبعد الاقتصادي المحض، لذلك تقوم السياسة الصينية على البحث المتواصل عن الأسواق الجديدة وتوفير مصادر الطاقة وتوسيع نفوذها عبر تجميع وسائل التكامل الإقليمي والاستراتيجي متعدد الأقطاب، والأخذ بزمام المبادرة لطرح مشاريع ضخمة عابرة للحدود. ويأتي في مقدمة هذه المبادرات، مبادرة (حزام واحد، طريق واحد) (One Belt One Road) التي تهدف إلى إنشاء شبكة طرق برية وبحرية تجارية تربط الصين مع الشرق الأوسط وأوروبا.

 

تحاول الصين نقل مركز الثقل الاقتصادي العالمي من الغرب إلى شرق آسيا عبر بناء تحالفات اقتصادية وتجارية ومؤسسات مالية بديلة لمؤسسات "بريتون وودز" الأمريكية بامتياز، ولعل أهم ما قامت بها الصين لتعزيز دورها التنافسي وتحقيق ما تصبو إليه، إضافةً إلى مبادرة إحياء طريق الحرير القديم، ما يلي:

 

a.    تأسيس منظمة شنغهاي للتعاون (SCO) كنواة عملية لسياسات جديدة تهدف إلى بناء نظام عالمي جديد مركزه في شرق آسيا.

 

b.    المساهمة في تأسيس مجموعة (BRIC) في عام 2009، والتي تحولت فيما بعد إلى (BRICS)، وتضم هذه المجموعة أكثر من /42/% من سكان العالم.

 

c.    تأسيس بنك التنمية المشترك في شنغهاي برأسمال قدره /100/ مليار دولار أمريكي، للإحلال مكان البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أهم أعمدة النظام المالي الذي أسسته بريتون ودز.

 

d.    تأسيس البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية في عام 2014 برأسمال /100/ مليار دولار أمريكي.

 

تحتاج الصين لتحقيق النجاح في سعيها للهيمنة على الاقتصاد العالمي إلى إقامة علاقات قوية مع دول الشرق الأوسط لتأمين احتياجاتها من الطاقة غير المتجددة، لذلك فهي تسعى إلى وضع موطئ قدم لها في هذه المنطقة الاستراتيجية، بمختلف السبل، ولا شك أن ذلك يهدد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، خاصةً أن العديد من دول المنطقة ترى أهمية لمبادرة طريق الحرير، مثل إيران وتركيا. كما شهدت علاقات تلك الدول تطوراً ملحوظاً مع الصين في العقدين الأخيرين، حيث ارتفع حجم التبادل التجاري بين الصين وتركيا من /1.4/ مليار دولار أمريكي في العام 2000م إلى /27.3/ مليار دولار أمريكي في العام 2015م، وخلال تلك الفترة تمكنت الصين من التفوق على ألمانيا لتصبح المصدر الرئيسي للواردات التركية.

 

الرفض الأمريكي للمشروع الصيني

 

سيصطدم المشروع الصيني الطموح بالرفض الأمريكي في المنطقة، وسوف تسعى الأخيرة إلى إعادة الترتيبات الجيوسياسية لدول المنطقة بالشكل الذي يؤمن مصلحتها المستقبلية وتحجم الدور الصيني في المنطقة. نرى أن هذا التناقض الأمريكي – الصيني في المنطقة يخدم مسألة دعم الولايات المتحدة لتأسيس كيانٍ كردي من أجل إجراء التغييرات الجيوسياسية المطلوبة لاستمرار سيطرة الولايات المتحدة في المنطقة عبر وضع حدٍ للطموحات التي تسعى دول المنطقة إلى تحقيقها من خلال التوجه نحو إقامة العلاقات مع الصين. الأمر الذي يعني عدم قدرة المنظومة السياسية الشرق الأوسطية لقرن العشرين، والتي وضعت أسسها بموجب اتفاقية سايكس –بيكو، على حماية المصالح الغربية أمام توسع النفوذ الصيني.

 

تفرض هذه المعطيات الجديدة على الولايات المتحدة إجراء تغييرات جوهرية تؤدي إلى ظهور نظم سياسية جديدة، أساسها إقامة توازنات مختلفة عما كانت سائدة في مرحلة الثنائية القطبية، وما تلاها في عصر الليبرالية الغربية الشاملة، المهددة بيقظة التنين القادم من أقصى الشرق.