عقب ماجرى في تونس ومصر ومع توقع عدم استمرار الوضع السوري القائم أطلقت الأمانة العامة لـ”إعلان دمشق” في يوم 25 شباط/فبراير2011 النداء من أجل دعوة “جميع قوى المعارضة على أمل اللقاء في لجنة وطنية للتنسيق من أجل التغيير”، ولأجل أن ” تنسق المواقف، وتخطط للنشاطات وتديرها “.
في فترة ما بعد درعا 18آذار/مارس2011، وما نشأ من مشهد سوري جديد بفعل مظاهرات حصلت في محافظات سورية عديدة ، كان برنامج “التغيير الوطني الديمقراطي” يجمع كل أطراف المعارضة السورية، ومن أجل تفادي مشهد الثمانينيات لمّا انقسمت المعارضة السورية بين الإسلاميين والديمقراطيين كانت فكرة “اللجنة الوطنية للتنسيق” التي أُطلقت في نداء 25 شباط هي أقرب للدعوة إلى جبهة عريضة للمعارضة، وفعلاً في يوم 9 أيار/مايو 2011 وُزعت سراً على أطراف المعارضة السورية: “إعلان دمشق” و”التجمع الوطني الديمقراطي” و”تجمع اليسار الماركسي- تيم” و”المجلس السياسي الكردي” و”حزب الاتحاد الديمقراطي- PYD)، وعلى خمسة وثلاثين شخصية مستقلة بعضها من الإسلاميين، وثيقة حملت عنواناً هو: “نحو ائتلاف عام للتغيير الوطني الديمقراطي”.
خلال الأيام الفاصلة بين الوثيقتين كان مطلب “التغيير” مرفوقاً بالدعوة إلى”حوار وطني شامل” وهو ما كان بالحرف موجوداً في وثيقة “إعلان دمشق”، ولم تكن هناك دعوات إلى “إسقاط النظام” في الوثيقتين. ولكن في 15أيار/مايو انتقل “إعلان دمشق” نحو طرح جديد في بيان علني يقول بأن “الحديث عن الحوار في ظل إصرار النظام على خياره الأمني يعتبر موقفاً خاطئاً”.
خلال أربعين يوماً فصلت بين 15أيار و25حزيران، يوم قيام “هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديمقراطي”، والتي هي وليدة نداء 25 شباط، توضّح أن إمكانية قيام جبهة عريضة للمعارضة أصبحت غير ممكنة، فمن وقع على وثيقة تأسيس “الهيئة ” كان العروبيون والماركسيون واليسار الكردي، فيما تبلور اتجاه معارض آخر، ضمّ ليبراليو “إعلان دمشق” والإسلاميون، اتجه نحو تشكيل “المجلس الوطني” الذي أعلن عنه في إسطنبول بيوم 2 تشرين الأول/أكتوبر، وكان الاتجاه الأخير يحمل شعار “إسقاط النظام” و”طلب الحماية الدولية” بالترافق مع إنخراط الإسلاميين بالمجلس في تمويل وتنظيم الفصائل المسلحة المعارضة التي بدأت بالظهور منذ خريف ذلك العام.
هذا الانقسام الذي ظهرت معالمه في الصيف جرت محاولة لتجسيره، لمّا جرت محادثات في الدوحة في الأسبوع الأول من أيلول/سبتمبر، بين “الهيئة” و”إعلان دمشق” و”الإخوان المسلمون”، وفشلت بسبب رفض الإعلان والإخوان تضمين مطلبي “رفض التدخل العسكري الخارجي” و”إدانة العنف من أية جهة أتى” في الوثيقة للجسم الجديد المقترح للمعارضة الذي أسمي بالمسودة باسم “الائتلاف الوطني السوري”، ثم فشلت المحاولة الثانية بين “المجلس” و”الهيئة”، عندما رفض المكتب التنفيذي للمجلس وثيقة 30 كانون أول/ديسمبر2011 التي وقعها رئيسه الدكتور برهان غليون مع نائب المنسق العام للهيئة الدكتور هيثم مناع في القاهرة. وبين التاريخين اتجهت الأحزاب الكردية إلى تشكيل “المجلس الوطني الكردي” في يوم27 تشرين الأول/أكتوبر، وكان ملفتاً بقاء “حزب الاتحاد الديمقراطي” في هيئة التنسيق وعدم اتجاهه نحو جسم فئوي قومي خاص مثل “المجلس الوطني الكردي” (حزب الاتحاد الديمقراطي قام بتجميد عضويته في هيئة التنسيق بكتاب يحمل تاريخ 7\1\2016) .
لم تكن الخلافات تنظيمية بين الاتجاهين المذكورين في المعارضة السورية، حيث كانت “الهيئة” منذ مؤتمر حلبون في 17أيلول تطرح مرحلة انتقالية تتشارك فيها السلطة والمعارضة في “مرحلة انتقالية تتولى السلطة فيها حكومة وحدة وطنية تتمتع بكل الصلاحيات اللازمة لقيادة الانتقال نحو النظام الجديد المنشود” (وثيقة:”الانتفاضة- الثورة: المخاطر وطريق التغيير”، البند السابع)، فيما كان تحالف الإسلاميين والليبراليين في “المجلس” يطرح بدل “المطلب التغييري الانتقالي” مطلب “إسقاط النظام” بالترافق مع ميول عندهم نحو المراهنة على التدخل العسكري الخارجي وتشجيع العنف المعارض في زمن كان الرئيس الأميركي باراك أوباما يرعى تحالفاً أميركياً مع تركيا الأردوغانية ويؤيّد تولي الإسلاميين للسلطة في تونس بخريف 2011 ثم مصر في صيف 2012.
هذا الانقسام بين اتجاه “تغييري انتقالي للسلطة”، و”اتجاه إسقاطي للسلطة” ما زال قائماً في المعارضة السورية حتى أيامنا هذه، وبداية هذا الانقسام ظهرت منذ خريف 2011، وكانت بذوره في أيار 2011. تمظهر هذا الانقسام في الموقف من “مبادرة الجامعة العربية” (2 تشرين الثاني 2011)، ومن “بيان جنيف1” (30 حزيران 2012) وهما يدعوان إلى حل تغييري انتقالي، حيث رفض “المجلس” المبادرة العربية وبيان جنيف وهو ما تابعه “الائتلاف”الذي هو وريث المجلس منذ خريف 2012، وحتى عندما شارك “الائتلاف” في الوفد المفاوض المعارض في (مؤتمر جنيف3)، بالربع الأول من عام2016، بمحادثات أجريت مع الوفد الحكومي السوري من أجل تنفيذ القرار الأممي 2254 (18 كانون الأول 2015)، برعاية أميركية – روسية وهو يحوي خريطة طريق لمرحلة انتقالية تغييرية، فإنه سرعان ما شارك رياض حجاب في تفشيل المفاوضات بتشجيع تركي.
يمكن هنا لملمة ما سبق: “إعلان دمشق” و”الإخوان المسلمون”، ثم جسمهما التحالفي المشترك في “المجلس” ووريثه “الائتلاف”، لم تصب كراتهم شباك المرمى ولا مرة واحدة ولا حتى أخشاب المرمى الثلاث خلال الثلاثة عشر عاماً الماضية، هذا إذا استخدمنا مصطلحات كرة القدم، وكانت قراءتهم للسياسة بعيدة عن مبدأ: “إدارة الممكنات من أجل تحقيق الهدف”، وكانت قراءاتهم للجو السوري، والجوين الدولي والاقليمي لا تلامس الوقائع وتوازنات القوى ولا اتجاهات الرياح حتى عند الحلفاء فكيف بالخصوم. ويمكن هنا تذكر موقف رئيس “الائتلاف” معاذ الخطيب في مؤتمر مراكش لـ”مجموعة أصدقاء سوريا” (12\12\2012) لمّا اعتبر “جبهة النصرة جزء من الثورة” أمام الحاضرين ومن ضمنهم نائب وزير الخارجية الأميركي وليام بيرنز، ثم كرر الموقف ذاته باليوم التالي نائبه جورج صبرة بحديث تلفزيوني مع محطة أميركية، في وقت كانت واشنطن مصدومة بمقتل السفير الأميركي في ليبيا على أيدي إسلاميين مرتبطين بتنظيم “القاعدة”، وهو ما دفعها قبل خمسة أيام من مؤتمر مراكش لتصنيف “جبهة النصرة” المرتبطة بتنظيم القاعدة “منظمة إرهابية”، ثم تكررت الصدمات لواشنطن بالمواقف الصادرة من” الائتلاف” عندما رفض النداء الأميركي في فترة 2014-2016 بأن يكون صاحب موقف مضاد من “داعش” في وقت شكلت فيه واشنطن تحالفاً دولياً ضدها .
كان موقف “مجلس سوريا الديمقراطية- مسد” و”قوات سوريا الديمقراطية- قسد” الانخراط في الجهد ضد “داعش” قراءة مطابقة للجو الدولي ولاتجاه الرياح الدولية، مثلما كانت قراءة “هيئة التنسيق” مطابقة في قراءة الجو الدولي – الإقليمي نحو الحل الانتقالي منذ عام2011، و”الهيئة ” و”مسد” اجتمعا أيضاً منذ عام 2016 على الحل السياسي الانتقالي. والأرجح أن هذا ماجمعهما في وثيقة التفاهم الثنائية الموقعة بينهما في 24حزيران 2023، ثم فرقتهما الخلافات حول “وثيقة العقد الاجتماعي”، كما فرقتهما قضية طرح “الفيدرالية” التي طرحتها “الإدارة الذاتية”في عام 2016.
كانت وثيقة 24حزيران 2023جهداً أوّلياً من أجل تشكيل “القطب الديمقراطي”، الذي كان يؤمل أن يضم كل المعارضين غير الإسلاميين، بعد أن فشل الإسلاميون، الذين تصدروا المعارضة السورية، بتشجيع أميركي- تركي، منذ خريف2011، وفي لقاءات لمعارضين سوريين كثر مع أطراف دولية وإقليمية كان يلمس تغير الجو الدولي – الإقليمي من الإسلاميين باتجاه النبذ والسلب وضرورة تغيير ما فعله أوباما وأردوغان لمّا ساهما في جعل الإسلاميين في واجهة المعارضة السورية، وقد كان إمساك الإسلاميين بمقود مركب المعارضة السورية سبباً رئيسياً في فشل المعارضة السورية خلال ثلاثة عشر عاماً مضت.