مع أن فوز رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية التي جرت في مايو/أيار الماضي حدد مسار السياسة التركية في الفترة المنظورة، على شكل استمرار للتوجهات التي تم تبنيها خلال السنوات الماضية، إلا أن ثمة تحديات داخلية وخارجية بدأت تطل برأسها مع قدوم عام 2024، وباتت تخيم بظلالها على هذه السياسة، وتضع الأجندة التي رسمها أردوغان في امتحان صعب.
أولى هذه التحديات هي الاقتصاد، حيث الأرقام باتت مخيفة لصانع القرار التركي، إلى درجة أنها تدفعه إلى الهروب في كافة الاتجاهات لمنعه من الانهيار، إذ تقول الأرقام إنه عندما فاز أردوغان في الانتخابات كان الدولار يساوي 20 ليرة تركية فيما قاربت اليوم 30 ليرة، وأن نسبة التضخم كانت 44 بالمئة أما اليوم فقد بلغت 68 بالمئة، ونسبة الفائدة كانت 8,5 أما اليوم فقد بلغت 40 بالمئة، وهكذا تتزاحم الأرقام في لوحة سوداوية، تبخّرت معها وعود أردوغان بحل مشكلات تركيا الاقتصادية قبل الانتخابات، وتؤثر سلباً على الاستثمار، وتزيد من نسب البطالة، وارتفاع الأسعار، والعجز عن تسديد الديون، وارتفاع قيمة الواردات عن قيمة الصادرات، وكل ما سبق ليست مجرد أرقام، وإنما مؤشرات حياة أو موت في مسيرة الدول، وربما يذكرنا هذا الوضع بالعبارة الشهيرة التي سادت أمريكا مطلع تسعينيات القرن الماضي “إنه الاقتصاد يا غبي”، ولعل أكثر ما يثير انزعاج أردوغان الذي كان يرفض بالمطلق رفع أسعار الفائدة يجد اليوم مع فريقه الاقتصادي الجديد، محمد شيمشك وحفيظة أركان، أن هذه الأسعار تشهد قفزات غير مسبوقة، إلى درجة أن الخوف من تداعياتها تدفعه إلى تقديم تنازلات كبيرة من أجل الحصول على المال، فبعد أن كان يحذر اليونان بشكل شبه يومي، ويهدد بقصف عاصمتها أثينا، ها هو يقوم بزيارتها على أمل فتح صفحة جديدة مع الدول الأوروبية التي اشترطت تقديم الدعم المالي لحكومته بتغيير سياستها في شرقي المتوسط، وهو سيناريو تكرر من قبل مع دول الخليج العربي ومصر، عندما تخلى أردوغان عن جماعات الإسلام السياسي لصالح التطبيع مع هذه الدول لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى.
في ملفات الداخل التركي أيضا لعام 2024 تتوجه الأنظار إلى الانتخابات المحلية المقررة في نهاية آذار/مارس المقبل، ولعل أردوغان يشعر براحة شديدة بسبب تفكك تحالف أحزاب المعارضة التي توحدت في الانتخابات الرئاسية ضده، لكنه يدرك في الوقت نفسه أن هذا التفكك لا يعني إنه ضمن الفوز في هذه الانتخابات، واستعادة السيطرة على بلديتي إسطنبول وأنقرة، وما تمثل هذه السيطرة من تفويض سياسي لكتابة دستور جديد، يسعى أردوغان إلى أن تكون الجمهورية بطابع إسلامي، ويضع ما يشبه نهاية للحقبة الأتاتوركية، وعليه يبحث عن توسيع تحالفه مع حزب الحركة القومية بزعامة باهجلي، ليشمل أحزاب أخرى، بما في ذلك أحزاب كردية، خاصة أن الأخيرة قد تجد تقاطعات مع أردوغان في ظل احساسها بأن تجربة تحالفاتها السابقة مع أحزاب المعارضة لم تحقق نتائج سياسية منشودة.
في السياسة الخارجية، يواصل أردوغان نهجه في اللعب على التناقضات الدولية، واتباع مقياس التوازن للاستمرار في نهجه هذا، فالرجل يذهب إلى بوتين دون خلق أزمة مع الإدارة الأميركية، وينسج العلاقة مع الأخيرة، وجناحه العسكري حلف الناتو، دون الاصفطاف إلى جانبهما في المواجهة مع روسيا في حربها ضد أوكرانيا، وهو في هذه السياسة يتطلع إلى استثمار موقع تركيا، وطرح نفسه كوسيط في هذا الصراع، على أمل أن يؤدي ذلك إلى حل الخلافات المتفاقمة مع واشنطن، ودفع الأخيرة إلى تقديم تنازلات له في شمال شرقي سوريا، أو حتى انجاز صفقة شراء مقاتلات إف – 16 حتى لو عبر الموافقة على ضم السويد إلى عضوية الناتو بعد أن جعل من هذه القضية قضية استغلال سياسي بالدرجة الأولى، لكن ما يؤرق أردوغان أكثر هو المستجد المتعلق بقضية حرب إسرائيل – حماس، وتحول الموقف التركي الداعم لحماس إلى قنبلة في العلاقة التركية بكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، حيث تطالب الدولتين تركيا بوضع نهاية لهذا الدعم بوصف حماس حركة إرهابية لم يعد من الممكن قبولها في المشهد السياسي بعد هذه الحرب، وهو ما يشكل تحديا للسياسة الخارجية التركية في الشرق الأوسط، في ظل احساس تركيا بأنها ستخسر واحدة من أهم محددات سياستها الخارجية تجاه العالم العربي والإسلامي، فيما عدم الاستجابة للطلب الأمريكي قد يفاقم المشكلات مع الغرب، ويقطع الطريق أمام مساعي تحسين العلاقة معه في وقت تشعر تركيا بحاجة ماسة لذلك لأسباب اقتصادية بالدرجة الأولى.
في الجوار التركي جنوباً، تراجع الاندفاع التركي نحو المصالحة مع النظام السوري، ودخلت محاولات التطبيع التي جرت برعاية روسية مرحلة الجمود على خلفية رفض أنقرة مطلب دمشق بسحب القوات التركية من المناطق السورية التي تحتلها، أو ربط هذا الانسحاب بعملية سياسية تقوي من نفوذها في رسم ملامح مستقبل سوريا، في المقابل تكثف تركيا نشاطها الدبلوماسي والسياسي على جبهة بغداد – أربيل، متطلعة إلى جرهما خلف حربها المعلنة ضد حزب العمال الكردستاني بعد أن فشلت عملياتها العسكرية في القضاء على الحزب المذكور، بما يعني ذلك الابقاء على استراتيجية الاستهداف الأمني في سوريا والعراق، مستفيدة من قدراتها الاستخباراتية وتفوق سلاح المسيرات مع ممارسة الضغط في كل الاتجاهات.
إقليمياً تبدو تركيا في عام 2024 أمام مسارين: الأول، مواصلة الاندفاع نحو دول الخليج العربي، ومحاولة اتباع سياسات تتوافق مع هواجس هذه الدول بخصوص أمن الخليج، وذلك بهدف أساسي هو ضمان الدعم المالي من هذه الدول لبلاده. والثاني، زيادة حدة المنافسة مع إيران في القوقاز، انطلاقاً من الدعم الذي قدمته وتقدمه تركيا لحليفتها أذربيجان، لاسيما بعد استعادة الأخيرة السيطرة على إقليم قره باغ، ومحاولة خلق تغيرات جيوسياسية عبر فتح ممرات تجارية جديدة، لاسيما ممر زنغزور الذي قد يشكل نقطة صدام مع إيران التي تجد نفسها المتضرر الأكبر من هذا الجموح التركي نحو القوقاز وعموم آسيا الوسطى.
تركيا الداخل في عام 2024 تبدو كمن يقف على قنبلة الاقتصاد التي قد تنفجر مع الصعود الكبير “للجنرال” الدولار أمام الليرة التركية، وتداعيات ذلك على معيشة المواطن، فيما تتحرك في الخارج كمن يبحر بسفينة تحاول التوازن وسط العواصف التي أنهكت القبطان.