خلال عام من الحرب، في أوكرانيا، تبلور تحالف بين روسيا والصين، لم يكن متبلوراً قبل هذه الحرب. في الضفة الأخرى، تمظهر معسكر يضم حلف الأطلسي – الناتو واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا. وعملياً، الحرب في أوكرانيا هي حرب بالوكالة الأوكرانية عن هذا المعسكر الرباعي مع روسيا،التي لم يتحول حلفها مع الصينيين لأكثر من البعد السياسي من دون العسكري، ولكنه سياسياً ودعائياً هناك اصطفاف صيني مع موسكو، وتوتر سياسي معلن وعسكري مبطّن بين بكين وكل من واشنطن وطوكيو، وعسكري مباشر مع تايوان. إيران من خلال بداية تزويدها لروسيا بالطائرات المسيرة منذ الخريف الماضي تعلن من خلال اشتراكها غير المباشر في الحرب الأوكرانية أنها قد أدارت الظهر لمفاوضات إحياء الاتفاق النووي مع الأميركان وأنها عملياً قد أصبحت ثالثة التحالف الصيني- الروسي.
العالم الآن يتحرك على إيقاع المجابهة بين المعسكر الرباعي (الناتو- اليابان- كوريا الجنوبية- أستراليا) والتحالف الثلاثي الصيني- الروسي- الايراني. ساحة المجابهة الرئيسية بالشكل العسكري هي أوكرانيا بين الروس والأوكران مع تغذية عسكرية للروس من قبل إيران ومساعدة لموسكو تقرب من التحالف العسكري من قبل بيلاروسيا، فيما هناك تغذية عسكرية واقتصادية وسياسية من قبل حلف الناتو للأوكران، ومساعدات اقتصادية وتقنية لكييف من أطراف التحالف الرباعي غير الناتوية.
أشعلت الحرب في أوكرانيا،أو الانقسام العالمي الجديد، توتراً غير مسبوق في بحر الصين الجنوبي وفي الشاطىء الشرق آسيوي للمحيط الهادىء-الباسفيك، وهناك بداية لتعزيز القواعد العسكرية الأميركية في الفيلبين، ومحاولة أميركية لاستقطاب إندونيسيا التي تربطها روابط اقتصادية قوية مع الصين، كما أن اتجاه مالي وبوركينافاسو للاستغناء عن الوجود العسكري الفرنسي في البلدين الإفريقيين لايمكن إبعاده عن مجابهة روسية- فرنسية في إفريقية أتت أو استعرت على وقع اصطفاف باريس ضد موسكو في الحرب على الأرض الأوكرانية، وهناك محاولات روسية للتقارب وتعزيز العلاقات مع مصر وجمهورية جنوب إفريقيا تأتي على وقع مايجري في أوكرانيا، ليمثل كل ذلك نشاطاً روسياً جديداً غير مسبوق بعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام1991 في القارة الإفريقية يذكر بالتدخلات السوفياتية – الكوبية العسكرية في إثيوبية وأنغولا سنوات السبعينيات والثمانينيات أثناء الحرب الباردة مع واشنطن.
في هذا الإطار تأتي محاولات موسكو لاستمالة أردوغان أولاً من خلال ماطرحه بوتين في تشرين الأول/أوكتوبر الماضي من مشروع لتحويل تركيا إلى مركز وحيد لتوزيع الغاز الروسي لأوروبا وماتطرحه موسكو منذ نهاية العام الماضي من مشروع لمصالحة أو تسوية بين السلطة السورية وأردوغان، وهما مشروعان يجب النظر لهما في إطار الانقسام العالمي الجديد باتجاه استقطاب أنقرة نحو تحالف بكين- موسكو- طهران بعيداً عن رباطها الناتوي، أكثر من كونهما مشروعان اقتصادي وسياسي يؤخذان بحد ذاتهما بمعزل عن تلك الدائرة العالمية للصراع، وربما يكون المشروع الأول هو ضغط على الأوروبيين الذين يتجهون للانفطام عن النفط والغاز الروسيين، أكثر من أي شيء آخر، مع تفكير، في حال اكتمال هذا الانفطام أو الفطام نحو تحويل تركيا لمركز لتوزيع الغاز الروسي للعالم عبر بواخر الغاز المسال من أجل إغراءها بأن لاتكون ممراً لأنابيب الغاز من الشرق الأوسط وشاطئي بحر قزوين إلى أوروبا، فيما مشروع المصالحة الروسي بين أردوغان والسلطة السورية يهدف إلى إغراء الزعيم التركي بمكاسب على الأرض السورية تريدها موسكو من أجل إبعاد أنقرة عن واشنطن، وهو على ما يبدو أن السلطة السورية تخالف موسكو في هذا التوجه، وفي كل الأحوال فإن هدف بوتين من هذا المشروع هو تركي وصراع روسي مع واشنطن في سوريا، وعلى سوريا، أكثر منه محاولة جدية لحل الأزمة السورية حتى مع قول الروس بأنهم يريدون تطبيق القرار 2254 تحت مظلة روسية- تركية- إيرانية، وهم يعرفون بأن هذا القرار الصادر عام 2015 وكذلك بيان جنيف عام 2012 والقرار 2118 عام 2013 كانوا المحاولات الحقيقية لحل دولي للأزمة السورية ما داموا قد شكلوا مظلة دولية كان يشكلها وحده التوافق الأميركي- الروسي، وموسكو وطهران تريدان زيادة أسهم أردوغان في الانتخابات التركية القادمة من خلال هذا المشروع الروسي في سوريا وهو يريده لإرضاء القوميين الترك المتطرفين، فيما يبدو أن أسهم أردوغان وحزبه ستقل بعد الزلزال الأخير الذي كشف هشاشة وفساد صناعة البناء التركية التي وصفها أردوغان قبل مدة بأنها “تاج الصناعة التركية”.
على غرار حركة عدم الانحياز التي تشكلت زمن الحرب الباردة 1947-1989، هناك دول تحاول ممارسة الحياد في هذا الانقسام العالمي الجديد، مثل الهند، ويلفت النظر محاولات سعودية وإماراتية في هذا المنحى ولو أن اتجاه واشنطن نحو مجابهة إيران ستجعل الرياض في اتجاه الابتعاد عن هذا الحياد الذي كانت دوافعه انزياحات سعودية بعيداً عن واشنطن على وقع محاولات بايدن إحياء الاتفاق النووي مع طهران، كما أن البرازيل مع الرئيس الجديد اليساري من المرجح أن تتجه نحو ذلك، وكذلك جمهورية جنوب إفريقيا، وخاصة إن حصل توازن عالمي بين طرفي هذا الانقسام العالمي الجديد.
كتكثيف: هذا الانقسام العالمي الجديد سيكون مسرحه العالم، مثل الحربين العالميتين، أو الحرب الباردة التي كانت حرباً عالمية ثالثة، والأرجح أنه سيولّد حرباً عالمية رابعة ستؤثر على العالم كله وعلى دواخل كل البلدان، وخاصة في البلدان التي فيها تواجد عسكري أو نفوذ سياسي لبلدين أو أكثر من طرفي هذا الانقسام العالمي، مثل أوكرانيا وسوريا ولبنان والعراق وليبيا، وستكون هناك أيديولوجيات تتفرع عن هذا الانقسام، كما أن الاقتصاد العالمي سيتحرك على وقعه، وهو – أي الأمر الأخير- مانراه حاصلاً منذ بداية الحرب في أوكرانيا في يوم24شباط/فبراير2022.