أردوغان إذ يقرأ سيرة النُميري

باستدارته الأخيرة نحو “المصالحة” مع النظام السوري، وبالإضافة إلى مجموع تحولاته السياسية الحادة السابقة، يكون الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد طابق نظيره السوداني جعفر النُميري، الذي حكم السودان منذ أواخر الستينات من القرن المنصرم وحتى أواسط الثمانينات منه. الحُكم الذي بدأه النُميري كانقلابي عسكري، ثم صار يسارياً ثورياً، ومنها نحو الناصرية والخطاب القومي العربي المتطرف، لينتهي به المطاف كإسلامي محافظ ومتشدد، بعد أن مرّ بمرحلة من الشعبوية الجارفة بين المرحلتين القومية والإسلامية.

صحيح، كانت الشموليات السياسية في منطقتنا دوماً على درجة من البرغماتية السياسية والإيديولوجية، بشكل يسمح لها بالبقاء في سُدة الحُكم حسب التحولات التي تجري داخل بلدانها وفي محيطها الجيوسياسي. لكن تجربة أردوغان الراهنة، ومسيرة النُميري السابقة، هما مثالان بارزان على فظاعة إمكانية القفز من موقع وخيار سياسي إلى نقيضه تماماً، بكل “أريحية”، دون أي شعور بتبعات ذلك، ومع الحفاظ على نفس القواعد الاجتماعية والنُخبوية المؤيدة. 

إن المقارنة ومحاولة الفهم بالموازنة بين تجربتي أردوغان والنُميري، تفتح المجال أمام إمكانية المزيد من المعرفة بأحوال الاجتماع السياسي في هذين البلدين، وفي مختلف بلدان المنطقة. وأولاً تسمح لنا معرفة حقيقة الأدوار التي تؤديها الأيديولوجيات في التغطية على نوع من الشموليات المستترة، وتالياً تفكيك منظومة العلاقة بين تلك الايديولوجيات وحقيقة إيمان مُطلقيها بها.

فبـ”المصالحة” مع النظام السوري مثلاً، يكون الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أكمل دائرة كاملة من التحولات/الانقلابات السياسية: من إصلاحي اقتصادي وقومي محافظ في بداية عهده، إلى ثوري راغب في تغيير الهيكل التأسيسي للدولة التركية، عبر وعود بالشراكة مع المنظومة الأوروبية، وصولاً لحالته كثوري إسلامي شرق أوسطي، مع بداية أحداث الربيع العربي، ومنه إلى قومي عرقي متشدد، يعتمد العنف والتدخلات الخارجية لتحقيق طموحاته، عبر التحالف مع حزب الحركة القومية المتطرفة، وصولاً إلى عهده الراهن، كبراغماتي مهادن، يتطلع للبقاء في السُلطة بأي ثمن، مهما كان، أقرب لروسيا منها لقوى حلف الناتو. وحيث أنه كان طوال هذه الفترة يستند إلى خطاب شعبوي إيديولوجي، يدّعي حمل قيم النقاء والخلاص والنجاعة للشعب التركي، مع الإيحاء بتبني الطهرانية القومية والدينية والمجتمعية.

تجربة النميري كانت شيئاً كثيراً من ذلك، من حيث الأدوار والتحولات المطابقة، ومن حيث ما روجه عن نفسه طوال ذلك.

إذ مع انقلابه العسكري أواخر الستينات، أدعى النُميري أنه ولج عالم السياسة رغبة في إنهاء الانقسامات الحادة والعميقة في البلاد، بالذات بين الحزبين الرئيسيين المتنافسين، وحل مشاكل السودان عبر ثنائية التنمية وتفكيك مشكلة الجنوب. فأسس مؤسسات السُلطة الحاكمة من أبناء الطبقات التعليمية والفكرية العليا في البلاد، وصار يتصرف وكأنه يملك رؤية واضحة وكاملة عن التغير الجذري المتخيل والموعود.

لكن، ولأسباب تتطابق مع مسيرة أردوغان، متمركزة حول رغبة النُميري بالبقاء كـ”قائد أبدي” للبلاد، فإن خطواته التنموية كانت مؤقتة للغاية، ما لبثت أن تراجعت تحت ضغط وبسبب صعود طبقة الضباط الشركاء وأفراد العائلة والأصدقاء المقربين إلى سُدة القرار الاقتصادي والسياسي. كذلك اتخذ النُميري بعض القرارات السطحية بشأن مسألة الجنوب، لم تطل بأي شكل جذر المشكلة الجنوبية. ولأجل ذلك، ما لبثت أن اندلعت الحرب بشكل أكثر شراسة، بالضبط كما حصل مع أردوغان والمسألة الكردية.

في هذا السياق، وجد النُميري نفسه وقد تحول إلى قومي عربي، يقلد التجربة الناصرية بكل تفاصيلها، ويحاول تأسيس خطاب سياسي وتنظيمات ذات هوية شعبوية في كل حدب، كانت بجوهرها أداته لقمع كل الأنداد المتوقعين، متخلياً عن كل نزعاته الإصلاحية السابقة. بالضبط كما كان أردوغان قد تحول من “إصلاحي تنويري”، كما كان يدعي، إلى حليف لحزب الحركة القومية المتطرفة.  

لكن عقد السبعينات الذي أضمحلت معه الخطابات والنزعات القومية، لصالح الإسلام السياسي، دفعت النُميري لأن ينقلب على نفسه، ويصبح إسلامياً محافظاً، يفتك بكل المنجزات والشخصيات والأفكار المدنية التي راكمها المجتمع السياسي والثقافي والاقتصادي السوداني طوال عقود، مؤسساً لفضاء عام مرحب بانتشار الأفكار المتطرفة في كل نواحي الحياة، بما في ذلك الجيش. أيضاً بالضبط كما صارت عليه علاقة أردوغان بتنظيمات الإسلام السياسي العابرة للحدود، العنيفة والمتطرفة منها بالذات.

سقط النُميري جراء الانقلاب الأبيض الذي قاده الضابط عبدالرحمن سوار الذهب عليه عام 1985، ولغير صدفة كان سوار الذهب هو العسكري الانقلابي الوحيد في تاريخ منطقتنا الذي سلم السلطة العسكرية بعد الانقلاب لنظيرتها المدنية. لكن الإسلامية السياسية التي أسس النُميري لها، سمحت لتلامذته من العسكر الإسلاميين لأن يعودوا للانقلاب على الحياة المدنية مرة أخرى، وبعد أربع سنوات فحسب، وأن تتحول السودان إلى واحدة من بقاع العالم الراعية للتنظيمات الأكثر تطرفاً في العالم، بما في ذلك جماعات مثل القاعدة، التي نشأت ولاقت ملاذاً آمناً في السودان لعقود.   

ترسانة ضخمة من الأسباب البنيوية العميقة التي تجمع التجربتين، لكن مقولتان رئيسيتان يُمكن استشفائهما منهما: تقول الأولى إن السُلطة هي جوهر الفعل السياسي في هذه البلدان، وليس الرؤية. فأردوغان والنُميري يقدمان تاريخاً من “خيانة” ذوي الرؤية الإصلاحية والتجديدية لما ادَّعوه، وتؤكد حقيقة فاعلية التشبث بالسلطة بكل الأثمان، بما في ذلك الانقلاب على ما كان يُدعى يُوماً بأنه “الخلاص”.

أما المقولة الثانية، فتذهب لتأكيد الهشاشة الروحية والعقلية والإيديولوجية التي تحملها القواعد الاجتماعية وأعضاء الرأي العام والموالين أمام مثل هذه التحولات. إذ ثمة على الدوام قاعدة كُبرى من المصفقين والموالين و”الالتراس”، غير القادرين على ملاحظة تلك التحولات التي يمارسها “القادة”، الذين يحافظون على ولاء جذري ودائم لمن في سُدة الحُكم، أياً كانت شروطه وتحولاته وخياراته. فالنسبة الأكبر من القواعد الاجتماعية إنما توالي “من يحكم”، وليس لديها أي شروط على “كيف يحكم”.