شمال وشرقي سوريا: بحر من الثروات وتحديات متجددة
د. أحمد يوسف
لم تكن تجربة الإدارة الذاتية المعلنة عنها في (روجآفا Rojava) في الثلث الأخير من الشهر الأول لعام 2014م حالةً سياسية وإدارية معتادة، ليس في الجغرافيا السورية فحسب وإنما في عموم جغرافية الشرق الأوسط، وظلت خارج مدارك الحراك السياسي والشعبي التقليدي في المناطق التي ترسخت فيها قواعدها الإدارية والتنظيمية تدريجياً.
وقد نجم عن تلك الرؤية غير المكتملة وقوع التجربة بمجملها في مواجهة التحديات المتعلقة بالاعتراف على المستويين الداخلي والخارجي، الأمر الذي أدى بها إلى مواجهة أشكالٍ مختلفةٍ من الصعوبات التي تعترض طريق تطورها. إلا أن الحنكة السياسية والقدرة على التنظيم المجتمعي أديا إلى إذلال العقبات الداخلية إلى درجة كادت معها أن يتم الإعلان عن هذه التجربة على أنها الأمثل للتعميم على مجمل الجغرافيا السورية.
إذا كانت الخطوات الكبيرة في عالم السياسية تُواجه دائماً بالتحديات الكبيرة، فإن ذلك يشكل مؤشراً للمتابعين على أن تجربة الإدارة الذاتية تلقي خطوات كبيرة نحو ترسيخ مفاهيمها في التعايش المشترك وإدارة المنظومة الاجتماعية بكل فروعها. فقد رأى أصحاب هذا المشروع المعتمد على التعايش المشترك للمكونات التي تشارك الجغرافيا نفسها أنهم في مواجهة أقوى تنظيم إرهابي عالمي في القرن الواحد والعشرين، في مرحلة مبكرة من عمر التجربة، وذلك بغرض إنهائها عبر تدمير البنيتين التحتية والفوقية، وقد أدت تلك المواجهة إلى استنزاف الكثير من موارد الإدارة خلال الفترة الممتدة ما بين عامي 2014م و2019م، على أن ذلك لا يعني أن الأخيرة فقدت قوتها وباتت على شفا الهاوية، لما لجغرافيتها من قدرات تمويلية تميزها عن عموم الجغرافيا السورية، فمن أين تأتي هذه القدرات التمويلية؟
بحر الثروات
تتحكم الجغرافيا السياسية لشمال وشرق سوريا بالعجلة الاقتصادية السورية، نظراً لما تمتلكها من خصائص جيولوجية يفترض أنها تشكل مصدراً للقوة التفاوضية للإدارة الذاتية، إذ أنها تستحوذ على ما يعادل /60%/من الناتج المحلي الإجمالي، الذي يمنحها دوراً متميزاً، تشكل من خلاله مصدراً للأمنين الغذائي والمائي لعموم سوريا.
اعتادت الشعوب الشرق الأوسطية على أن ترى في ثرواتها نقمة تنكد عيشهم، ولم تنل من خيراتها سوى الفتات، ولم تلق سوى الحروب والويلات التي تتخللها بعض فترات الاستقرار الوهمية. فهل تنطبق هذه الرؤية على شعوب مناطق الإدارة الذاتية باعتبارها تجربة جديدة ومختلفة عن الصورة النمطية للإدارة في المنطقة؟ أم أن الإدارة تملك من الخصائص ما يجعلها متميزة في سياساتها في مختلف المجالات، وبالتالي استحواذها على القدرات التي تنقلها إلى عالم الاستقرار الحقيقي في بيئة أقل ما يمكن القول عنها أنها بؤرة التطرف والفوضى منذ ما يقارب القرن.
لا شك أن الإجابة عن سؤالٍ كهذا في ظل ظروف غياب الاستقرار وتعدد مدخلات أي عملية سياسية وتنوعها وما ينتج عنها من ضعف الإدراك لمخرجات تلك العملية يعد أمراً بالغ الصعوبة. وتفرض العقلانية الفكرية عدم الغوص في تسجيل إجابات قطعية في هذا المجال. وأياً كانت الإجابة على السؤال المطروح، والذي يحمل في طياته إشارات استفهام تعجز مداركنا عن استيعابها، لتراكم وتعدد المؤثرات الداخلية والخارجية على راسمي السياسات العامة ومتخذي القرارات الإدارية ومنفذيها على حدٍ سواء، فإن الإدارة الذاتية لشمال وشرقي سوريا ترى نفسها في مواجهة العديد من المعوقات التي تحد من حجم قدراتها الإدارية على امتداد مساحتها الجغرافية بتنوعها الأثني والطائفي.
معوقات متنوعة قد تكون أساساً لإعاقات مسقبلية
إن التسليم بموضوعية الإجابات غير القطعية لواقع الحال في شمال وشرقي سوريا لا يفسد للود قضية إذا بحثت الإدارة عن المعوقات التي تلعب دورها في إضعاف قدراتها على ترسيخ منظومتها المرسومة في أروقتها الاستراتيجية، وعملت على إذلالها تدريجياً. ولعل أكثر المعوقات لعملها تكمن في الصعوبات التي تعترضها في السلك القضائي الذي لم يستقر على نظام قائم بذاته، فهو ليس كالنظام القضائي القائم على منظومة قانونية شاملة ودقيقة في مفرداتها، ولا هو بنظام اجتماعي قائم على العرف دون الاهتمام بالمنظومة القانونية المعمولة بها عالمياً، ولم تتبلور شخصيتها المستقلة بين المنظومتين الاجتماعية والقانونية.
لا يقل العامل الاقتصادي أهميةً وخطورةً عن العامل القانوني، فالإدارة الذاتية ما زالت تحبو على الأربع في هذا المجال، إذ يظهر غياب الرؤية الاقتصادية لها في كل سلوكياتها التي تدخل في إطار السياسات الاقتصادية التي تتميز بضعف التكامل فيها واجتزائها أفقياً وعمودياً. ولدى التدقيق في النظام الاقتصادي، إن صح التعبير، تتجلى الصورة الواضحة لضعف الإدراك بأهمية سياسات الاقتصاد الكلي، فيستعاض عنها بسلوكيات إجرائية مؤقتة تؤكد على ضعف المدركات الإجمالية لهذا الجانب الحيوي في الإدارة، وتحمل معها مسببات الاصطدام المستقبلي بين المعطيات الفكرية والوقائع العملية.
إذا كانت المعطيات الاقتصادية تؤكد تناقضات الحالة السائدة اقتصادياً ما بين عوامل تحقيق التنمية المستدامة التي تتجلى في توفر الموارد الطبيعية والبشرية وما بين عوامل كبح التنمية والتي تتجلى في غياب الرؤية الاقتصادية الواضحة، وإذا كان ذلك التناقض ينذر بتضييع الجهود في فخ غياب الاستراتيجية الاقتصادية. فإن التحديات الأمنية والسياسية تلعب دوراً مثقلاً للعوامل المعيقة للتنمية، من خلال إشغال الجهود الحالية بتركيزها في المجالين المحددين وإهمال الجوانب الأخرى التي ستظهر جوانبها السلبية مستقبلاً عبر انعكاساتها التي ستبدو جلية في رداءة الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الإدارة للسكان. وتظهر الحالة الإشكالية لهذه المعوقات في انعدام الرؤية الواضحة للأفق السياسية للمنطقة والناجمة بشكلٍ أساسي عن ضعف الشفافية في آليات تعامل دول التحالف مع الإدارة الذاتية كنظام سياسي وإداري لجغرافيا تعادل مساحتها ثلث سوريا ويسكنها خمسة ملايين نسمة، وتلاقي مصالح القوى الإقليمية مع الانتماء العاطفي للقوى المحلية من أجل محاربة النظام السياسي المتشكل فيها بمختلف الوسائل، وذلك لضمان عدم تحقيقها لأهدافها المرسومة في أروقتها وعرقلة وصولها إلى تحقيقها تحت أي ظرفٍ كان.
لا يخفى، إلى جانب ذلك، خطر تنظيم داعش الإرهابي الذي غير استراتيجيته في محاربة مكاسب مكونات الشمال الشرقي إثر فقدانه السيطرة الجغرافية ومحافظته على جزء من قوته البشرية التي بدت تحركاتها المنفردة واضحة في محافظات الحسكة والرقة ودير الزور بتنفيذها لعمليات إرهابية تسعى من خلالها خلق الفوضى واستثمار الضغوطات الخارجية على الإدارة الذاتية في هذا الاتجاه لتحقيق أهدافها في هدم أسس بناء الهيكلية الإدارية والسياسية.
عالمياً، تؤكد الكثير من التجارب أن بحار الثروات تحولت رمالاً مالم تكن محمية بطاقات بشرية فعالة وقادرة على بناء نماذج تنموية وتستقي سلوكياتها من منهجيات فكرية متكاملة. والسؤال أين الإدارة الذاتية من هذا؟ سؤال لا يكفل بالإجابة عنه سوى الزمن، لأن الزمن عامل تنمية، وعامل ضياع للتنمية في الوقت ذاته.